يبدو من تأمل المشهد السياسى الراهن فى مصر أن هناك نوعا من التوافق النسبى يجرى بناؤه فى الوقت الراهن حول تقدير الموقف المصرى الراهن بين أغلب تيار الإسلام السياسى يتصدره (الإخوان المسلمون) وبين جزء كبير من التيار الليبرالى، وشطر (صغير) من اليسار مثل الفصيل المسمى (الاشتراكيين الثوريين)؛ حيث يتم توصيف الوضع الحالى بنعوت تتراوح بين التأسيس لفاشية جديدة، وبين حكم عسكرى صريح أو خفى، وبناء دولة باطشة تقوم على القوة.
ولا نستغرب أن يحدث تحالف سياسى أو انتخابى بين هذه التيارات الثلاثة، ومن يدرى، ربما بزعامة الإخوان، بحيث يمكن أن يشكل هذا التحالف بديلا للوضع القائم الآن فى وقت قادم، من خلال إحدى الجولات الانتخابية المقبلة.
والملفت للانتباه أن التحالف الجنينى القائم بين التيارات الثلاثة السابقة، يتجاهل تماما تحديات العنف السياسى المسلط بهدف إرباك الوضع الجديد بعد الثالث من يوليو 2013 وتعطيل مسيرته، تمهيدا للعمل على إسقاطه بجميع السبل، وكذا تحديات العنف المسلح من فصائل قريبة من تيار (الإسلام السياسى) انطلاقا من سيناء ومنطقة القناة، ويدور هذا العنف الموجه بالقتل لأفراد الشرطة والجيش طول الوقت، فى معركة دامية لا يعبأ طرفها المبادر بأية مخاطر يمكن أن تحيق بالدولة الوطنية المصرية حالا ومآلا.
وما النتيجة المتوقعة فى ضوء الاصطفاف السابق؟
•••
فى رأينا أنه إن لم تبادر القوى المسماة بالمدنية، وظهيرها الشعبى العريض، لدعم الوضع السياسى الجديد لما بعد 30 يونيو و3 يوليو، وتأسيس صيغة سياسية جامعة، وبلورة سياسة اقتصادية ناجعة، وسياسة اجتماعية فعالة حقا ــ إن لم يتحقق كل ذلك، فسوف تظل حالة التشتت والتشرذم هى العامل المهيمن على الكيان السياسى الهش الحالى والذى يفترض أن يتولى مواجهة احتمال عودة حكم الإخوان المسلمين فى صورة جديدة، مع حلفائهم الجدد من «الليبراليين» وشطر ضئيل من اليسار.
وليس من المتوقع بدرجة عالية أن يؤدى ذلك التحالف المتمثل بين «الإخوان» والليبراليين وجزء من اليسار، إلى إسقاط الوضع الجديد فى الواقع الفعْلى، نظرا لوقوف الجيش والشرطة والقضاء صفا واحدا متراصا كحائط صّد مانع لهذا الاحتمال، ولذا فإن المحتمل الأقرب أن يسود شىء قريب من صيغة (لا غالب ولا مغلوب) على «الطريقة اللبنانية»، فى ظروف جديدة، وهى صيغة لا تسمح بتحقيق تقدم يذكر على أى صعيد، كحال لبنان الشقيق منذ نهاية (الحرب الأهلية) فى مطلع التسعينيات الماضية.
وربما يتخلق مزيج من الحالة اللبنانية ومن الوضع (العراقى) الراهن، حيث انتخابات بدون مضمون ديمقراطى حقيقى، وشراكة بين البعض بغير مشاركة من الجميع، وقوة عسكرية وأمنية ذات تكلفة عالية ويتم تحييدها لصالح التدهور العام الذى تحتل فيه قوى التطرف (من تنظيم «القاعدة» وغيره) موقعا محوريا عبر الزمن. وفى المحصلة النهائية: وضع سياسى فى حالة التوقف أو التجمد Stalemate. إن من شأن تحقق مثل هذا الوضع فى مصر وإن لم يصل بالبلاد إلى حدود (تحطيم الدولة) إلا أنه يمكن أن يصل بها إلى حدّ (شلل الدولة) ومن ثم تعطيل آلة الدولة الوطنية وغلّ يدها عن المساعدة فى إقامة «تيار رئيسي» على صعيد المجتمع، باتجاه التقدم والاستقلال الوطنى.
•••
إننا إذن بصدد معركة سياسية حاسمة خلال الشهور والأعوام القادمة، معركة يستنفر فيها طرف معين (تيار الإسلام السياسى) كامل قوته الذاتية والتحالفية، للعودة إلى قلب السلطة أو إلى هوامشها، وإنْ بثمن اجتماعى باهظ، متّكئا على دعوى (مذبحة الديمقراطية).
وعلى الجانب الآخر، يقف التحالف (المدني) زائغ العينيْن متشرذما، ولولا أن القوات المسلحة قد حافظت على تماسكها وعلى قدر معين من الانحياز المجتمعى الملائم فى لحظات الفصْل (25 يناير ــ 30 يونيو) لذهب ذلك التيار (المدني) شذر مذر فى مهب الأعاصير، وهو المعبر ــ افتراضيّا ــ عن ضمير المجتمع، «صوت الشعب» غير المسموع.
فهل تدرك الأطراف الفاعلة فى المشهد السياسى المصرى الراهن ــ بتحالفاتها الخطرة ــ الحدود لتصرفاتها السياسية، وعاقبتها الكارثية على مستقبل الوطن؟
•••
وفى سؤال أكثر تحديدا: هل يستطيع الليبراليون وجزء من اليسار تجاوز ما تحت أقدامهم، وأن ينظروا إلى الخلف لتذكّر ما جرى بعد 25 يناير 2011 واستخلاص العِبر، وأن ينظروا إلى أمام أملا مستقبل أفضل؟
وفى جميع الأحوال، يبقى السؤال المعلّق: ماذا بعد؟ وفى سبيل الإجابة عن مثل هذا السؤال، فإنا ندعو النخبة المصرية بكافة أقسامها إلى أن تتجاوز انقساماتها المزمنة، وتحقق التقارب فيما بينها، سعيا إلى تحقيق ثلاثة أمور متلازمة:
التوافق حول دعم الوضع السياسى العام القائم بعد 30 يونيو بخطواته الدستورية المتلاحقة بما فيها الانتخابات النيابية والرئاسية، إن لم يكن بسبب المبادئ كما يرى فرقاء عديدون، فليكن بسبب قوة الأمر الواقع الجديد ولو بطريقة (خسرنا معركة ولم نخسر الحرب)، والحديث هنا موجه لتيار «الإسلام السياسى» عموما، و«الإخوان المسلمين» خصوصا.
استبعاد ما يمكن أن نطلق عليه «الوهم العسكرى»، ذلك الوهم المتمثل فى الفكرة القائلة بأن الجيش وقائده الحالى يسعيان إلى إقامة «حكم عسكرى» فى مصر يطيح بهامش الحريات المتبقية أو المتوقعة، ويعيد سيرة حكم عسكرى استمر 60 عاما، فيما يرْون أو بالأحرى ما يزعمون.
ففيما نرى، أن الجيش لا يسعى إلى إقامة حكم عسكرى، وأنه لم يكن ثمة حكم خالص للعسكريين أصلا طوال أغلب الستين عاما الماضية، وبصفة خاصة لم يكن ثمة حكم عسكرى فى ظل ثورة 23 يوليو وخاصة بعد الاستفتاء على جمال عبدالناصر رئيسا منتخبا فى عام 1956 وحتى وفاته عام 1970، مع التسليم بالدور المحورى للمؤسسة العسكرية كأحد (مراكز القوى) الأساسية داخل النظام السياسى وخاصة بين 1962 و1967.
بناء على ما سبق، من حيث ضرورة تحقق التوافق العام للنخبة، واستبعاد الوهم العسكرى، فإن ذلك ينبغى أن يمهد للالتفاف حول «مشروع وطنى ــ اجتماعى» يسعى إلى إنجاز انطلاقة تنموية بالمعايير العالمية خلال حقبة زمنية محددة (عشر سنوات مثلا) على قاعدة من التكامل العربى والاستقلالية النسبية للوطن العربى فى مجال العلاقات الدولية.