الإعلان نشاط يمارسه الإنسان منذ فجر التاريخ عندما كان يعرض ما يفيض عن حاجته بالمقايضة حتى قبل أن تترسخ التجارة كنشاط اقتصادى اجتماعى. وكان الإنسان ينادى على ما يعرضه أثناء تجواله أو فى الأسواق ليعرف السامعون بوجوده ووجود بضاعته، وأخذت النداءات شكلا مسجوعا ومنغما فى شكل أهازيج أو أغانٍ بسيطة وساذجة لكنها تقوم بالغرض منها.
مع ظهور الكتابة بدأت اللافتات البسيطة التى ما زلنا نرى نماذج منها كالتى تقول «كل كبدة ومخ باطمئنان واقرأ الفاتحة للسلطان» وغيرها. والغرض من الإعلان فى مراحله الأولى كان للفت نظر الجموع إلى المنتج وإرشاده إلى مكان تواجده، وتطور الأمر مع الكشوفات الجغرافية التى جلبت أصنافا لم تكن معروفة فى العالم القديم وتعريف الجمهور بها ومميزاتها وترغيبهم فيها مثل الشاى والبن والكاكاو والتوابل، ولم يخلُ الأمر من بعض التدليس لترويج هذه السلع مثل الزعم بأن لها قدرات علاجية وهو ما رددته الإعلانات عن الشوكولاتة.
ومع تطور قدرة الإنسان على الإنتاج مع بزوغ عصر الثورة الصناعية وتطور النشاط التجارى وشيوع العلامات التجارية خطا الإعلان خطوة جديدة بتوظيفه فى ضمان الولاء لعلامة تجارية معينة وإقناع المستهلك بأن الشاى الموجود فى علبة تحمل علامة معينة أفضل من مثيله الذى يحمل علامة أخرى رغم أن كليهما وارد من نفس الحقل فى الهند ولعل بعض أوراقهم من نفس الشجرة، ونفس الشىء بالنسبة للقهوة ودخان السجائر.
ثم خطا الإعلان خطوة جديدة مع شيوع الفكر الرأسمالى فبعد أن كان وسيلة لتعريف المستهلك بالمنتج الذى يطلبه وكيفية الحصول عليه صار أداة لإقناع المستهلك بحاجته إلى أشياء لا لزوم لها فى حياته، والمثال على ذلك اللبان والسجائر.
ثم وصل الإعلان أخيرا إلى محطته الحالية وهى إثارة السخط وعدم الرضا لدى المستهلك بإقناعه بأنه إن كان يمتلك سيارة قوتها ثلاثمائة حصان وسرعتها 220 كيلومترا فى الساعة فإنه يستحق سيارة قوتها 700 حصان وسرعتها 350 كيلومترا فى الساعة، وأن مكانته الاجتماعية لا تتحقق إلا إن ارتدى ملابس تزكى نفسها بتمساح أو بلاعب رياضة البولو على حصانه، وإن كان يسكن فى شقة فإنه يستحق فيلا فى كومباوند وتزين له الإعلانات إمكانية تحقيق ذلك بالاستدانة وبالتقسيط.
• • •
لقد كان الإعلان نشاطا هامشيا تابعا للإنتاج يقدم على أكتاف الفنانين من رسامين وخطاطين وزجالين وموسيقيين، لكنه تطور اليوم لتقوم به وكالات إعلانية ودعائية ذات قدرات هائلة تفوق قدرات الكثير منها قدرات المؤسسات الصناعية والتجارية التى تتولى الترويج لمنتجاتها، وصار الإعلان نشاطا احترافيا مستقلا تماما عن المنتج فنجد فى كثير من الأحيان نفس الوكالة تروج لمنتج معين والمنتج المنافس له!
وبتزايد قدرات وكالات الإعلان الكبرى صارت تستعين بخبرات أكاديمية ومتخصصة فى العلوم السلوكية خاصة علم النفس وعلم الاجتماع والإعلام، وتطورت وسائل الإعلان ولم يعد الإعلان المباشر الذى يدعو إلى شرب كذا أو تدخين كذا أو ارتداء كذا، بل صار الإعلان غير المباشر هو سيد الموقف بعرض النجوم يستخدمون المنتج للإيحاء للمشاهد بأنه إذا استخدم المنتج صار مثل نجمه المفضل. ويذكر أنه فى الثلاثينيات من القرن الماضى ظهر النجم الكبير كلارك جيل فى مشهد فى أحد الأفلام وهو يخلع قميصه ويظهر صدره عاريا دون فانلة داخلية فانخفضت مبيعات الفانلات الداخلية بشكل كبير، كما تزامن ظهور الشخصية الكرتونية popeye البحار الذى يستمد قوته من أكل السبانخ مع زيادة فى مبيعات السبانخ بلغت 30%، واستغلت وكالات الإعلان شخصية جيمس بوند وأفلامه، فمع بداية ظهور أفلامه كان يقود سيارة Aston Martin حتى دفعت شركة BMW مبلغا هائلا ليغير العميل السرى الشهير سيارته كما دفعت شركة Omega للساعات ليغير العميل ساعته الرولكس إلى ساعة أوميجا، أما ماكينة حلاقته الكهربائية من ماركة فيليبس التى يستعين بها فى كشف ميكروفونات التصنت وشمبانيا Dom Perignon المفضلة لديه فلم يستطع أحد إزاحتها عن عرشها.
وقد سأل أحد الخبثاء يوما عن سبب أن هوليود أنتجت 27 فيلما عن جيمس بوند ولم تنتج سوى فيلم واحد عن غاندى فقيل له إن جيمس بوند يروج للعديد من المنتجات أما غاندى فيرتدى مئزرا يغطى عورته وينتعل صندلا قديما ويشرب لبنا يحلبه من عنزته ولا يروج لشىء.
ومع بداية البث التليفزيونى فى الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية بدأت بعض الشركات الكبرى خاصة شركة وستينج هاوس وشركة Alcoa فى إنتاج مسلسلات للترويج لمنتجاتها، ولعل أول من نبه إلى خطورة ذلك على استقلالية ومصداقية الإعلام كان المذيع الإذاعى والتليفزيونى Ed Murrow فى الخمسينيات من القرن الماضى عندما اصطدم مع قيادات شركة CBS الإعلامية العملاقة بسبب معارضتها للحملة التى كان يقودها ضد السناتور جو مكارثى الذى كان يشن حملة هستيرية ضد من يتعاطف مع الاشتراكية ويتهمهم بأنهم عملاء شيوعيون.
لم يعد الإعلان مجرد نشاط اقتصادى بل أصبح أداة لخلق أنماط شخصية وسلوكية تتواءم مع العقيدة الاستهلاكية وتخلق الإنسان الذى يقول دائما «هل من مزيد؟».
• • •
تحاول بعض المجتمعات، حتى تلك المنغمسة انغماسا كاملا فى العقيدة الاستهلاكية، أن تضع ضوابط تكبح تغول النشاط الإعلامى، فمنعت إعلانات السجائر والتدخين بعد أن ثبتت أضراره على الصحة، ووضعت ضوابط على إعلانات الخمور، كما منعت الإعلانات التى بها إيحاءات عنصرية ضد الأمريكيين من أصل أفريقى أو التى تضع المرأة فى مكانة متدنية.
لعلنا فى مصر نتنبه ونعى الأثر الاجتماعى للإعلان ونعمل على وضع ضوابط لتنظيمه حتى نصون السلام الاجتماعى ومنع الاستفزاز الذى تسببه إعلانات الترويج لمساكن بعشرات الملايين لجمهور يعجز شطر كبير منه عن الزواج لعدم قدرته على توفير شقة بسيطة. الإعلانات التى تدعو المشاهد للانتقال إلى كومباوندات تليق بمكانته وتميزه عن العوام والإعلانات التى تروج لثقافة اللوتاريه واليانصيب بإعطاء الفرصة لكسب جنيهات ذهبية ومبالغ مالية كبيرة وتقدمها للفائز بزفة مصورة وهو يردد اسم المنتج متبوعا بأوه أوه!
لعله من المستفز أيضا أنه بمتابعة نسبة كبيرة من الإعلانات فى التليفزيون نجد أن معظمها يعتمد على المواقف الكوميدية والهزلية بشكل يومى، إن الطريق إلى وجدان الشعب المصرى هو الهزل بعيدا عن الجد إضافة إلى ما يتردد عن الأرقام الفلكية التى يتقاضاها الفنانون فى وقت يكافح الآلاف من خرجى وخريجات الجامعات الكادحين من أجل توفير مقتضيات الحياة.
وحتى لا أترك القارئ/ة بانطباع أنى معادٍ للنشاط الإعلانى دعونى أسوق مثالين للإعلان الراقى المحترم:
الأول، صورة الممثل العالمى الشهير يول براينر وأوصى بإذاعته بعد وفاته ويظهر على الشاشة مخاطبا المشاهد قائلا: مرحبا أنا يول براينر أحييكم من هنا وأدعوكم ألا تتسرعوا فى لقائى بتدخين أربع علب من السجائر يوميا.
أما الإعلان الثانى، فتم تصويره فى مطعم فى لبنان وجرسون يحصل على مقابل للعشاء من الموائد ويسددون بالدولار واليورو وبطاقات الائتمان وفجأة توجه الأضواء على مائدة ويصفق الجميع لمن عليها لأنهم سددوا فاتورتهم بالليرة اللبنانية.
الإعلان يمكن أن يكون واجهة راقية وتوجيها حميدا للمجتمع فدعونا نهتدى بالطيب وننأى عن الخبيث.
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية