فى 26 يوليو الجارى، حلت الذكرى الثلاثون لرحيل توفيق الحكيم (1898 ــ 1987)، أبى المسرح المصرى الحديث، وأحد رواد ثقافتنا العربية المعاصرة. ثلاثة عقود على غياب أحد مؤسسى الثقافة المصرية الحديثة، الذى كان فى ظنى مع نجيب محفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس يكمل المربع الذهبى لتأصيل الأنواع الأدبية الحديثة فى ثقافتنا العربية، المسرح والرواية والقصة.
لولا الحكيم ما كان نجيب محفوظ حسم أمره بالانحياز والتفرغ للأدب على حساب الفلسفة، ريادته متعددة الوجوه، فالإنجاز من الضخامة بحيث يصعب حصره فى مجال واحد. كان الرجل مقداما جسورا (على المستوى الفنى) فى كل المسارات التى اختطها. فى المسرح، هو الرائد والمؤصل بأعماله الكبرى «أهل الكهف»، «إيزيس»، «شهرزاد»، «سليمان الحكيم»، ثم تأتى أعماله فى فترة إبداعه الذهبى وتجاربه الطليعية الرائدة: «السلطان الحائر»، «يا طالع الشجرة»، «مصير صرصار»، «بنك القلق»..
وفى الرواية، هو أحد آبائها المؤسسين بروايته «عودة الروح» (1933)، و«يوميات نائب فى الأرياف»، و«عصفور من الشرق».. فى السيرة الذاتية، ترك كتابين من أهم وأعمق الكتب فى تلك الدائرة «سجن العمر»، «زهرة العمر»، ثم حاولْ أن تحصر إسهاماته بعد ذلك فى الفكر والفن والسياسة والأدب، وهى كلها فى النهاية مما يستحق أن يقرأ وأن يكون دائمًا بين أيدى الباحثين عن كتابة تحمل من الفكر والتأمل قدر ما تحمل من سحر الفن وروعة الإبداع ومتعة التلقى..
رحلتى مع الحكيم حافلة، بدأت فى مرحلة متقدمة نسبيًا (تعرفت على نجيب محفوظ، مثلا، قبل تعرفى على الحكيم بسنوات ليست قليلة).. أول ما قرأت له كتاب «زهرة العمر»، قرأته بشغفه لكن لم يأسرنى مثلما أسرنى كتابه الآخر «سجن العمر».. البساطة والتدفق والجرأة فى البوح عن تفاصيل شخصية وعائلية من شأنها أن تثير حفيظة الكثيرين وتقلق المحافظين فكريا وأخلاقيا! أما فى المسرح فكان تعرفى عليه من خلال روائعه العظيمة بدءا من «أهل الكهف» وحتى «الأيدى الناعمة» و«المسرحيات القصيرة» وما بينهما.
قفز الرجل بالمسرح العربى قفزة هائلة، اصطنع المسرح الذهنى، وكتب مسرحيته «يا طالع الشجرة» ليضيف ريادة على ريادته بالاتجاه إلى مسرح العبث، وطرحت أعماله أسئلة خطيرة حول صراع الإنسان مع الزمن فى «أهل الكهف»، وعن العلاقة بين السلطة والقانون فى «السلطان الحائر»، وعن القدرة والحكمة والحب فى «سليمان الحكيم»، وهكذا..
على أن أهم ما استلفتنى فى تجربة الحكيم الإبداعية المترامية الأطراف قدرته المذهلة على استشعار ضرورات اللحظة التى يعيشها «فنيا وإبداعيا»، كان يعلم أنه يلعب دورًا بالغ التأثير والأهمية والضرورة فى الثقافة العربية، انتقالاته الفنية ومحاولاته التجريبية فى الكتابة تؤكدان ذلك.
حينما كتب «أهل الكهف» كان يعلم أنه يفتح بابًا جديدا فى الأدب العربى، وحينما استشعر أن الظرف الثقافى والاجتماعى العام يقود إلى البحث عن تعبير فنى مغاير كتب «يا طالع الشجرة»، و«مصير صرصار»، و«بنك القلق»، ومن بعدها «الحمير».. ولا أظن أن أحدًا سينخدع بما كان الحكيم يثيره من آن لآخر من «فرقعات مدوية» فى الفكر أو السياسة أو صدمة الرأى العام، ما كان ذلك ليخدع عارفى فنه؛ لأن موهبته كانت عظيمة، وظل إدراكه الجمالى أصدق بكثير من وعيه الأيديولوجى وتحولاته الفكرية ومواقفه السياسية على امتداد حياته.
ما زلت على يقينى ومطالبتى بضرورة تجديد التعريف بهؤلاء الكبار، والإلحاح على حضورهم بالكتابة عنهم وإعادة طبع أعمالهم، وهو ما تتبناه دار الشروق باضطلاعها بتيسير طبعات حديثة من أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما، والتنبه إلى أن هناك موجات من أجيال جديدة دائمًا يبحثون عمّن يدلهم عن هؤلاء الرواد، وأن يشير إلى مفاتيح أولى للتعرف على كتاباتهم، ويقترح عليهم ما يقرأونه من أعمالهم، ويحثهم على مطالعة ودراسة أبرز إنتاجهم، وبعد ذلك فَلْنَلم عليهم كيفما شئنا!..