موضوع داعش والنصرة وبقية المنظمات الجهادية التكفيرية المماثلة، سواء على المستوى الوطنى أم المستوى العالمى العابر للحدود، ماعاد يكفى التعامل معه ومواجهته بمقال صحفى هنا أو بخطاب إعلامى هناك. فمواجهة علة خطيرة، على مستوى الصحة والاجتماع، إن لم تكن شاملة، فإنها لن تجدى.
لنذكِر أنفسنا أولا بأنه فى خلفية الموضوع تكمن إشكالات كبرى. هناك أولا الجانب الدينى المتمثل فى القراءات التخمينية المتزمتة لنصوص قرآنية منتقاة مفصولة عن سياقها التاريخى وأسباب نزولها، وفى أشكال من الفكر الفقهى المتخلف والذى لأسباب دنيوية ألبسه أصحابه أثواب القداسة، وفى التاريخ الطويل للاستعمالات الانتهازية للدين ورموزه فى صراعات الملك والسياسة والاستحواذ على الغنائم.
هناك ثانيا ثقافة التسلط والقمع فى البيت والمدرسة والمسجد والحزب ومؤسسات المجتمع والحكم المؤدية إلى سلوكيات الطاعة العمياء والاتكالية والخوف، وتبرير كل ذلك من خلال ترديد الأمثال الشعبية الشائعة المتجذرة المتلاعبة بحقول الإيمان والغيب والأخلاق والأوهام والتطلعات والأشواق الروحية فى الإنسان.
هناك ثالثا الحزازات والولاءات القبلية والطائفية المذهبية والعائلية والجهوية التى لم يستطع لا الإسلام الجامع ولا قيم الحداثة الديمقراطية محوها من حياة العرب السياسية والاجتماعية... جميع تلك الإشكالات، وغيرها الكثير من المواضيع والسلوكيات المشوهة لإنسانية الإنسان ومجتمعاته، والتى جميعها تقف وراء ظاهرة جنون الجهاد التكفيرى، لن تكفى لمواجهتها عبارات الشطب والغضب المؤقت والقلق الكاذب المنافق عند هذه الحكومة أو تلك أو عند هذه الجهة الاستخبارية أو تلك.
•••
لماذا الأمر كذلك؟ لأن الدراسات والتحاليل النفسية والسوسيولوجية تؤكد بأن تلك الإشكالات والعوامل الدينية والثقافية والسلوكية والسياسية التى زرعت ظاهرة الجنون الدينى الماثل أمامنا هى نفس الإشكالات والعوامل الكامنة فى عقل ووجدان غالبية كبيرة من سكان أرض العرب. والفرق الوحيد بين هذه الغالبية من الملايين وبين البضعة ألوف من حاملى رايات داعش والنصرة وفروعهما هو أن تلك الإشكالات والعوامل قد تفجرت وظهرت كممارسات غريزية همجية إلى السطح عند أولئك الأتباع، بينما هى لازالت فى حالة الكمون والتخفى فى أعماق الكثيرين منا بانتظار الفرص والظروف الملائمة لتنفجر وتظهر على السطح فى أشكال لا حصر لها من الهمجية والجنون العنفى.
وهناك رابع بالطبع قضايا الفقر والقمع الأمنى والبطالة والتهميش والتمييز وغيرها الكثير.
•••
هذا المشهد العربى العام الملىء بما انتهت صلاحيته التاريخية، الموبوء بما لا يتوافق وبما لا يمكن أن يتعايش مع متطلبات العصر والكثير من قيمه الإنسانية المعقولة المجربة، هو الذى يجب التوجه نحو معالجته بصور شاملة جدية عميقة شتى، حيثما يتجلى، ولدى كل حامليه وناصريه، ابتداء من الوالدين اللذين يعكسان كل أمراض محيطهما الاجتماعى ويعيدان إنتاج الموروث الحضارى ويدخلان كل ذلك فى عقل ووجدان أطفالهما، مرورا بالأستاذ المدرسى أو الجامعى الممارس اجترار التراث، مرورا بعالم الدين المهووس بإدخال كل ما هو هامشى غريب وشاذ وغير منطقى فى فضاءات الدين البسيطة السامية المستنيرة المتسامحة، وانتهاء بشتى أنواع السياسيين المتاجرين بالدين فى أسواق السلطة والأطماع والنهب والفساد.
ذلك التحليل النفسى والسوسيولوجى والفلسفى للفرد والجماعة، الذى سيكشف أوهام الثقافة العربية اليقينية، المطلوب معالجته للتراث كناقد ومتجاوز، وتفاعله مع الحداثة بندية ونقد وإضافات إبداعية... هذا التحليل لا يمكن أن يتم وينضج إلا فى أجواء الحرية والأنظمة الديمقراطية التى طرح شعاراتها الكبرى شباب ثورات الربيع العربى فى بداياتها.
قدر الجيل العربى الجديد أن يناضل، دون هوادة ودون التفات إلى المثبطات التى تلقى أمامه، من أجل انتقال أمته التاريخى نحو الديمقراطية، ليس فقط لأنها هامة بذاتها، وإنما لأن وجودها شرط للبدء بذلك التحليل النفسى ــ السوسيولوجى الذى سيكشف المسكوت عنه من أجل أن تصحو الأمة العربية وتستجمع قواها لتواجه العوامل الكثيرة التى فرخت داعش والنصرة وأخواتهما فى الماضى والحاضر، والتى إن لم تعالج بمستوى تاريخى جمعى ستفرخ مستقبلا أولادهما وأحفادهما.