جمعنا لقاء بعد سنوات، لا ليست سنوات بل عقودا، من العيش فى الغربة. نشأنا كلانا فى أحد أحياء القاهرة التقليدية. أحب جدا أن أطلق عليها مع محبيها اسم قاهرة المعز. عشنا فيها، أقصد صديقى وأنا، حتى سن البلوغ، وربما تصادف البلوغ مع نشوب الحرب وما رافقها من تغير فى المهن والوظائف حتى ظهرت حاجة العائلات الأصغر سنا للنزوح إلى أحياء أحدث وأقرب إلى مواقع الأعمال الجديدة.
تبادلنا السؤال نفسه وكان عن العائلة. كلانا ولد فى أحضان عائلة كبيرة، أى ممتدة. وصلت امتداداتها فى بعض الحالات إلى الجيران. كنا فى عائلتينا مثلا نتبادل تقريبا كل شىء. أذكر جيدا ساعة تناول وجبة الظهيرة. حينها كانت النساء والأطفال فى العائلتين وعائلات أخرى يجتمعون حول صوانى الطعام، وقد اصطفت عليها صحون تحمل شتى أنواع بقايا وجبات الأمس فى كل البيوت. كل أم تضع طفلا فى حجرها لتطعمه، فإن اطمأنت إلى أنه حصل على ما يكفيه أطلقته ليلعب هو وبقية الأطفال فى الغرفة الفسيحة المخصصة للعب، وأقصد المفرغة من الأثاث الثقيل وبخاصة القطع المدببة الحواف والقابلة للكسر. لا أتذكر وصديقى معى الكثير عن هذه المرحلة من حياتنا. أما الأطفال الأكبر سنا ومنهم مراهقون، وكلانا صديقى وأنا كنا نقع ضمن هذه الفئة، فكانوا يتناولون طعامهم على مائدة منفصلة وعيون الأمهات لا تفارقهم. متعتنا كانت، إلى جانب شراهتنا، الإنصات بخبث إلى أحاديث النساء على موائد الطعام. لم تكن واحدة من النساء المشتركات فى حلبة الغداء فى عجلة من أمرها. فقد انتهى التحضير للعشاء أو بمعنى أدق الوجبة الرئيسة التى تعد خصيصا لرب البيت عند عودته من العمل، انتهى التحضير ولم يتبق سوى تسويته ثم تسبيكه على نار هادئة.
•••
أذكر، ولا شك تذكر يا صديقى، أننا كنا منغمسين فى الإنصات عندما نَمَى إلى آذاننا صوت جدتى تتحدث بصوت هادئ ورصين إلى كبرى بناتها ثم التفتت ناحية الجدة الأخرى، جدة صديقى، لتشركها بالرأى وهى بالمناسبة صديقة عمرها كما كان يتردد بين الخدم. سمعناها تقترح على ابنتها بلهجة الأمر «تزويج» واحدة بعينها من بناتها إلى عزيز أفندى، ابن الخال الذى توفيت زوجته قبل شهور. خلال دفاعها عن اقتراحها قالت الجدة «صحيح أن عزيز تقدم به العمر قليلا ولكنه لا يزال بعافيته، والرجال كما تعرفين لا يعيبهن كبر السن أو غيره. لا تنسى يا فؤادة أن المحروسة بنتك تجاوزت عمر الزواج ولا يجوز أن نسكت على هذا الوضع وإلا فقدنا الأمل فى أن نجد لها زوجا وفرصة أن تحمل لنا طفلا أو أكثر. أهل الحارة يا بنتى بين شامت ومشفق وكلاهما مزعج لنا، أبيك الحاج وأنا».
•••
تنحت الأم، أم البنت المقترح تزويجها لرجل أكبر منها بكثير، وتساءلت بلسان أم مكسورة الجناح إن كانت ابنتها «بارت» أو أنها «وحشة». تراجعت الجدة قليلا لترد على ابنتها، قالت «أعوذ بالله، من قال إنها بارت أو أنها وحشة؟ لا يوجد فى عائلتنا واحدة وحشة أو واحدة لا قدر الله بارت أو تبور، والا ما رأيك يا ست أم توفيق»، متوجهة بالسؤال إلى ضيفتها وصديقتها. جاء رد الصديقة جدة صديقى سريعا ومتوقعا، «لا أحسن ولا أكرم من الستر للبنات».
ذهبت أم البنت المتعجل تزويجها إلى تغيير صوتها جذبا للاهتمام لما ستقول. «فوق رأسى كلامك يا أمى وكلامك يا خالة أم توفيق. لكن أنا خايفة أن تكونا قد نسيتما أن بنتى بنت مدارس. تعلمت وكانت متفوقة. وسوف نجد جميعا صعوبة كبيرة فى إقناعها بالزواج من شخص كان متزوجا ويكبرها بثلاثين عاما وفى رقبته ابنان وبنت والثلاثة فى سن زواج. يا أمى البنت بتشتغل وسعيدة فى عملها وفى حياتها، وموضوع الزواج لا يشغل بالها كثيرا. ولا شك أنه يوجد فى مقر العمل زملاء رجال وفى النهاية ستجد بينهم من يناسبها ويناسبنا. يا أمى الزمن تغير. البنت هذه الأيام تفضل أن تتزوج وفق رغبتها لتعيش سعيدة. تدخلت الجدة مقاطعة «أنت نفسك، ألست سعيدة فى حياتك. ألم نوفق فى اختيار زوجك؟ نحن اخترناه وكان أكبر منك بسنوات ليست قليلة. لم أسمع منك على مر السنين شكوى واحدة. كنت نموذجا يحتذى بين الأهل وسكان الحى للزوجة المطيعة وأنجبتما من الصبيان والبنات نموذجا للذرية الصالحة. زوجة مطيعة وذرية صالحة، نعم استجاب الله لدعائى وصلاتى». ومع بعض الانفعال ارتفع صوتها قليلا وهى تنظر لابنتها، وتسألها فى تحد واضح، «هل تنكرين؟!».
«يا أمى من فضلك لا تغضبى منى». واستطردت الابنة ذات الخمسين ربيعا فقالت: «يا أمى هل لديك أدنى درجة من الشك فى أننى سوف أدعو لابنتى وزوجها يوم زواجهما بنفس دعائك، زوجة مطيعة وذرية صالحة. ولكنى يا أغلى من فى الوجود بالنسبة لى ولشقيقاتى المحيطات بك سوف أضيف دعاء استجد مع السنوات التى تفصل بين دعائك لى ودعائى لأولادى. سوف أدعو الله للزوج بأن يمنحه القدرة على أن يتفهم حاجات المرأة التى تزوجها ويروض النفس الأمارة بالسوء وحب السلطة على حياة زوجية لا غالب فيها ولا مغلوب. حياة لا يسود فيها الرأى الواحد والحب من طرف واحد والكلمة العنيفة محل الحوار الطيب، حياة لا يفرض فيها الاحترام بديلا للحب وشهوات الغرائز مقابل طاعة عمياء وصماء ورضاء مستدام لا تمر فيه شكوى مفتوحة أو مكتومة».
أحمر وجه الجدة وهى ترد على أكبر بناتها ودرة قلبها «حتى أنت العاقلة فى كل بناتى تكرر الكلام المعوج الدارج على لسان كل بنت فى هذه الأيام الخائبة. بالحق وبدون ملاوعة قوليلى وأمام أخواتك وخالتك أم توفيق إن كنت حقا تصدقين حكاية الرأى الواحد. بالله عليك هل كان أبوك ليرضى بدون أخذ رأيى بترددك على المدرسة المجاورة لبيتنا قبل زواجك. أتظنين أنه كان ليسكت على إهانة زوجك لك بعد شهرين من زواجكما. لو لم أتدخل لكنت الآن فى بيتنا امرأة مطلقة وزوجك مطرود إلى الشارع».
«وبهذه المناسبة أسألك أنت وأخواتك إن كنتن تعتقدن أن الحاج يعلم كثيرا أو قليلا عما يدور فى مطبخ البيت أو عن خزين السمنة والزيتون واللحم الأورمة والأرز والعدس والفول. أنا أستشيره أو أطلعه مرة فى مطلع موسم التخزين وأحيانا أساله وهو يستعد على باب البيت للخروج إن اشتاق لأكلة بعينها، ونادرا ما أسر إليه بمشاكلكن مع الأزواج والأولاد والبنات فهذه نتداولها فيما بيننا كنساء، فنحن النساء أدرى من الرجال بما فى القلوب وغرف النوم. نحن أيضا الأعلم بنزوات المراهقات والمراهقين ورغباتهم، نحن من يقرأ فى عيون بناتنا أسرارهن ونواياهن ونستشير بعضنا بعضا ورجالاتنا آخر من يعلم. أسرارهم، وأقصد رجالتنا، كتب مفتوحة لنا وهم لا يدرون، بينما أسرارنا نحن النساء، كل أسرارنا فى بير، والرجال لا يعلمون أو يعلمون بإذننا بعد حين. نتشاور فيما بيننا أنا وبناتى ونقرر، وإن تعذر تنفيذ القرار لجأنا للحاج. أجيبونى بالله عليكن، هل يتعلم بناتنا فى المدارس والجامعات عن اتخاذ القرار أسلوبا آخر أفضل وأجدى؟. هل يتعلمن عن علاقة النساء بأزواجهن شكلا آخر أكرم وأحسن؟ بسيطة، كفاية علينا نقارن بين ستات زمان وبنات هذه الأيام، هل ننكر أن كثيرا من بنات هذه الأيام لا يعمرن فى الزواج طويلا كما عمرنا نحن وكما عمرت أمهاتنا».