فبراير 2010،
معلمى وصديقى الأعز،
تسمح لى أفضفض ورأسى على كتفك. أريدك تسمعنى ولا ترى دموعى، وحتى إن سقطت دمعة على خدى فأصابعى مشرعة لالتقاطها قبل أن تراها. أما إن أفلتت منى وعرفت بسقوطها فرجائى أن تأخذها من عند خدى إلى شعرى. هناك افعل بها ما يحلو لك أن تفعل. علها، وأقصد هذه الدمعة، تروى مكانا امتد إليه جفاف فنبتت فى غفلة من الزمن ومنى شعرة بيضاء.
صرت أهتم بهذه الشعرة الواحدة والوحيدة. رأيتها قبل يومين وأنا أقف أمام مرآتى أصفف شعرى ولم أمنحها من اهتمامى إلا قليلا كأنما كنت فى انتظارها. تشككت فى بداية الأمر. تشككت فى قدرات نظرى فلم أكن وضعت نظاراتى. ومثل معظم من سبقنى فى العمر من رجال ونساء تشككت فى المرآة. فمرآتى ورثتها عن أمى ولا بد أصابها الإنهاك فصارت تعكس ما هو ليس موجودا فى الواقع. بلى زجاجها. امتدت إليه شقوق الزمن، أراها من على سطح زجاجها. أراها خطوطا وتعرجات. سمعت أن من مهام المرآة العتيقة التلاعب ببشرة من تختار من زبائنها، تفردها حينا كصفحة ماء رقراق وتجعدها حينا كأوراق زهرة تعاند الذبول.
قلت لم أكن أهتم بمواقيت العمر إلا قليلا ولكنى اليوم أهتم كثيرا. زال الشك ويحل اليقين أو هكذا بدا لى. وقفت أمام مرآتى أطول من كل المرات السابقة. اقترب منها وابتعد. أضع نظاراتى وأخلعها. أدقق فى تفاصيل ما يظهر على صفحتها، صفحة مرآتى. تركت مرآة تسريحتى وذهبت إلى حقيبة يدى أخرج منها مرآتى الشخصية، بالفعل شخصية فأنا لا أذكر أن أحدا غيرى وضع يده عليها أو بحث عن نفسه فيها. لن تخطئ ولن تبالغ فهى الأقرب بين كل المرايا إلى بشرتى. تحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الجزء من بشرتى سعيد الحظ لوجوده قريبا من عينين أعرف أنهما كانتا بين الأجمل فى كل من قابلت فى حياتى من نساء. أثق فيها كل الثقة. لم تخدعنى يوما. الزجاج فيها لم يتعرض لشقوق أو خدوش فعمرها أقل. لم أرثها عن أم أو جدة بل اشتريتها بنفسى من أرقى فرع من فروع شركة تجميل فى باريس لعلها الأشهر فى جودة وحداثة منتجاتها. كنت أشترى الأحسن لاعتقادى أن جانبا من نجاحى مدين لحسن مظهرى واعتنائى بتفاصيلى الأنثوية والمناسبة لمرحلتى العمرية.
معلمى وصديقى،
تعرف عنى الكثير. تعرف أننى خلال مراحل عمرى لم أبد اهتماما كبيرا بالرجل الآخر. الرجل بالنسبة لى كان دائما أبى وشقيقى وزميلى فى الدراسة وفى التنس وفى العمل. لم أنتبه إلا قليلا جدا على ما أذكر بهذا الآخر. نعم تقدم لخطبتى رجلان على مرتين، الواحد بعد الآخر. كنت أدرس فى كاليفورنيا وخطيبى الأول كان يدرس فى سويسرا. التقينا مرتين؛ مرة يوم الخطوبة فى بيت صديق مشترك فى باريس عند مرورى بها فى إجازة، ومرة بعد سنوات بالصدفة تذكرنا خلالها أننا مخطوبان فانتهينا منها. تذكر ولا شك خطيبى الثانى إذ تقابلنا كمتدربين فى مكتبك وقد لا تذكر أنك جمعتنا ذات يوم لتنصحنا بفك هذه الخطوبة، فكلانا كان متعنتا فى رفضه للزواج، ومصرا على التزام حريته وأولوياته فى الحياة وليس بينها الزواج. قلت لنا وقتها هذه خطوبة ضررها أكثر من نفعها، خطوبة طاردة لرجال آخرين محتملين.
• • •
سألتنى ذات يوم. «وماذا بعد؟». أجبتك، «وماذا قبل؟». عدت تسأل «قضيت عديد السنين بدون حب. لماذا لا تجربين الحب ولو لمرة؟». أظن أننى أجبت «دلنى، كيف يجربون الحب». وأضفت «ولكن قبل أن تدلنى على خريطة تجارب حب مناسبة، حاول إن كنت تعرف الطريق إلى الحب أن ترشد هذا الحب إلى طريقى فيأتينى من حيث لا أدرى. يكفينى ويشجعنى أن تعرف أنت من أين يأتى. أخشى إن تركتنى أبحث عنه أضيع. سمعت أن فى الطريق إليه مهالك، وفى السعى نحوه ذل ومهانات. من فضلك اعفنى من مشاق البحث. خذنى إليه أو أرشده إلى مكانى مع توصية منك بأن يكون رحيما بى وصادقا معى».
• • •
«تمهل يا أعز الأصدقاء، لا تذهب الآن. عندى ما أريد مفاتحتك فيه. تعذبنى مشكلة أريد حلا لها. ساعدنى من فضلك.. أنا لا أكره الرجال كما يحلو لك أحيانا أن تتصور.. تفسِّر تعنتى فى مسألة رفض الزواج على أنه كره للرجال أو فى أحسن الأحوال خوف منهم أو لشعور بالذنب تجاههم. نعم، هو الشعور بالذنب. يحدث أن أقابل رجالا فى العمل، وما أكثرهم فى كل مكان أذهب إليه، فى المؤتمرات، فى المصالح الحكومية، فى الطرقات والحافلات والقطارات والطائرات. هم فى كل مكان. من حق كل هؤلاء النظر إلينا علنا أو خلسة والتمعن فى وجوهنا وفى ملابسنا وفى شعرنا، حتى إن كثيرين منهم تتعلق أبصارهم لساعات بخصلة تفلتت من حجاب اجتهد وفشل فى محاولة حجب الشعر كله. لهم الحق ولا حق لنا فى المعاملة بالمثل.
أصارحك القول وهذا ما أفعله معك دائما، أنا واحدة من النساء اللائى انتزعن أكثر من مرة حقهن فى أن ينظرن إلى رجل لفت نظرهن ورحن يتمعن فى تفاصيله، ولكن خلسة وبذكاء لا يتوافر للرجال. يحدث معى أن أرى رجلا يتناول طعامه فى مطعم، لفت نظرى إليه شىء ما لا أستطيع تحديده الآن. نظرت إلى ناحيته ومنها خلسة إليه، كررت النظر وبدأت أتمعن وأيضا خلسة. أقضى على البعد مع هذا الرجل ساعة أنظر إليه وأتمعن فى تفاصيله فتتكاثر خيالاتى وتتداخل متدافعة أحاسيس ومشاعر، من أين جاءت لا أدرى. أعود إلى بيتى مثقلة بالهموم وتأنيب الضمير وعذاب الروح، كيف فكرت أذهب فيما ذهبت إليه وأفعل بنفسى ما فعلت بها. لم يكن جائزا ولا مهذبا ما ذهبت إليه وما فعلت قبل أن أضع الاحتمال أن يكون الرجل الجالس على مائدته أمامى مرتبطا. لقد تجاوزت كل الحدود وغير لائق ما حدث. أنا نادمة.
• • •
فبراير 2020،
صديقى العزيز،
لم يتغير شىء فى حياتى منذ كتبت رسالتى الأخيرة لك قبل نحو عشر سنوات حتى ليلة أمس. حدث ما يجب أن أطلعك عليه. كنا قبل أيام قريبة فى رحلة قمرية فى صحراء الأهرامات. كنا جماعة مختلطة من نساء ورجال. أكلنا وشربنا ولعبنا وتسابقنا فى الجرى حتى نال منا التعب فتمددنا فوق الرمل والقمر فوقنا يطل علينا بكامل هيئته ونوره وسحره. رحنا نتبادل الحديث. أمامى تمدد رجل لم أعرفه من قبل وبجواره تمددت نساء أعرفهن. طالت السهرة. البعض تبادل أماكن وأوضاع التمدد فصار الرجل الغريب متمددا إلى جانبى. لم أمنع نفسى من النظر إليه بتمعن. سألت وتحريت منه شخصيا فعرفت أنه متزوج. لم أهتم ولم أبتعد عنه ولم أتوقف عن الحديث وعن التحرى. أعترف لك أننى كنت مرتاحة البال والضمير. استأذن وفور ذهابه شعرت برعشة، ظننتها نتيجة لفحة من هواء بارد. تبين فيما بعد أنها لم تكن فبعودته وتمدده إلى جانبى سرى دفء غريب فى عروقى. على الفور هدأت الرعشة وغلب على أطرافى ومنها أصابعى شعور كالتنميل وإحساس غامر بالسعادة والفرحة. صرت أضحك وأحكى حكايات حلوة وتطوعت بالغناء فاخترت أغنية عاطفية من أحلى أغانى كوكب الشرق. فعلت ما لم أفعله من قبل فى خروجاتى مع أصحابى من الجنسين.
سيدى.. عدت إلى بيتى، لا وخز ضمير ولا عتاب مع الذات ولا ضيق فى الصدر. عدت والسعادة تغمرنى حتى عدت أغنى لنفسى ما غنيته فى ضوء القمر. لا أذكر أننى اسـتمتعت بنفسى فى حياتى السابقة كما استمتعت بها فى تلك الليلة. اليوم أحيا من جديد.
صديقى: أطلت عليك. سمعتك تهمس بشىء. ارفع صوتك قليلا فأذناى مشغولتان بأصوات أخرى تغنى وتهلل. نعم.. نعم.. سمعتك الآن تقول: «إنه الحب يا صغيرتى..».