نقف، العالم والإقليم ومصر، على مقربة من عصر جديد فى العلاقات الدولية. أبواب هذا العصر غير مشرعة تماما، واللاعبون فى غالبيتهم متوجسون سنوات صعبة وعمل شاق وحروب صغرى وعظمى محتملة. بعض معالم هذا العصر ما تزال ضبابية. الواضح لنا منها ليس إلا ما تبقى من معالم عصر ينقضى. من هذه المعالم انحدار مكانة ونفوذ القطب الأحادى وبخاصة منذ أن جرته التطورات إلى حروب قيادة أو وكالة امتحنت هذه المكانة وذاك النفوذ. منها أيضا، وأقصد من هذه المعالم المتبقية، توالى حدوث أزمات مالية واقتصادية عالمية حادة، ومنها وبوضوح أشد العودة من سياسات العولمة ومبادئها وقيمها إلى السياسات الحمائية التى سبق أن تسببت فى حروب عظمى، ومنها خروج مئات الألوف من المواطنين إلى الشوارع فى دول غربية احتجاجا على تدهور فى سياسات الرفاه والعدالة الاجتماعية ودليلا قويا على أزمة مستحكمة فى النظام الديموقراطى المهيمن فى الغرب، ومنها التجارب الأليمة التى تمر فيها دول ناشئة أو حديثة الاستقلال خلال محاولتها استكمال عملية التحرر من التبعية وفك الأغلال التى تربطها بدول الاستعمار القديم وفى محاولتها إشباع الرغبة فى التكتل بالدول الشبيهة والارتباط الناعم والمرن بالصين كقطب جديد فى النظام الدولى لا سوابق له فى العلاقات الدولية تحكم عليه أو يحتكم لها.
نسق النظام الدولى الذى عرفناه يرحل بصعوبة شديدة. عشنا فى ظله ما يقارب ثلاثة أرباع قرن. يرحل واللاعب القائد فيه عاقد العزم على مقاومة الرحيل بكل ما أوتى من قوة.. راح على سبيل المثال يستنهض نوايا العسكرة فى كل من اليابان وألمانيا ويدعو حلفاءه الأصغر فى دول حلف الناتو إلى زيادة الإنفاق العسكرى وتحديث منظومة التسلح. راح أيضا يستعيد قواعد عسكرية كانت له فى الفلبين ودول أخرى كان قد تخلى عنها عقب انتهاء الحرب الباردة.
هنا فى ساحتنا، الساحة العربية، ازداد الميل المتدرج نحو الاهتمام بهوامشنا شرق الأوسطية. اتسم ميلنا هذا بالارتباك والانقسام حيال إخراجه إلى الواقع. فبين امتناع بعض الدول العربية عن التقدم نحو علاقات طيبة مع إيران وملاقاتها فى منتصف الطريق المؤدى إلى استئناف العلاقات أقبلت دول بحماسة وعدم تردد. هذا السباق «الساكت» فى الإقليم، مصحوبا باختراق سياسى صينى لافت للنظر والاهتمام، انتهى إلى تأكيد فرضية نشأة توازن قوة جديد داخل النظام الإقليمى العربى، وفى الوقت نفسه إلى تأكيد حقيقة أن قمة النظام الدولى تشهد تحولا مثيرا فى تراتيب القطبية.
حدث أيضا أن إيران لم تكن اللاعب الوحيد فى إقليم الشرق الأوسط الذى قرر امتحان لياقته الإقليمية؛ سبقتها إلى هذا الامتحان كل من دولة الإمارات والمملكة السعودية من الساحة العربية، وتركيا وإسرائيل من منطقة الجوار. يلفت النظر بصفة خاصة اللاعب الإسرائيلى الذى قرر انتهاز فرصة انشغال الأطراف العظمى بالتحولات على مستوى النظام الدولى، وانشغال الساحة العربية بثمار وعواقب نشأة توازن قوة جديد فى النظام الإقليمى العربى، ليتحرك بحماسة وسرعة على طريق الاقتراب من «الحل النهائى» لقضيته مع العرب وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط.
• • •
أتصور أنه بالنظر إلى هذه الظروف، صار يتعين على الدبلوماسية المصرية أن تمتحن بدورها لياقتها فى التعامل مع ظروف أغلبها لم يسبق لها مواجهته مجتمعا فى لحظة واحدة. بالتأكيد لن ينفع أى من أساليب الإنكار أو التجاهل أو غض الطرف أو شراء الوقت، وكلها مع غيرها أساليب استخدمتها قيادات مصرية فى أوقات كانت القضايا فيها تتعقد والإمكانات تضعف والرؤى تتضارب والضباب يتكثف.
للدبلوماسية المصرية تجارب وخبرات تشكل فى مجملها منظومة إمكانات كان يمكن حشدها وتحديثها وما زال ممكنا. مثلا خبرتها بالحياد وعدم الانحياز تجد فرصتها الآن فى هذا الزخم غير المسبوق فى اندفاعه نحو تبنى الحياد أو تجديد الاعتناق به. هذه الخبرة وما أفرزته من تجارب عملية تجعل الدبلوماسية المصرية مرغوبة، إن لم تجعلها ضرورة، فى هذه المرحلة الوليدة على الصعيدين؛ صعيد التحول فى النظام الدولى، وصعيد التوازن الجديد للقوة فى النظام العربى. تجعلها ضرورة أيضا فى ظل بحث الصين عن خبرات وتجارب فى العالم النامى، تعزز بها عقيدتها الرافضة لهيمنة القطب الواحد وسياساته، ورافضة أيضا لذهنية الحرب الباردة وسباقات التسلح النووى.
لدينا تصور للوضع فى الإقليم ومحيطه يمهد للحديث عن المهام الجديدة والمستحقة للدبلوماسية المصرية فى الأيام القادمة. ففى هذا التصور تظهر الصين قطبا عالميا جديدا فى الشرق الأوسط، وتظهر أمريكا وقد عادت إلى الإقليم أقل نفوذا بعد غياب لم يطل. عادت قطبا منهك القوة بطىء المبادرة، ولكن بالمقارنة بالقوى العالمية الأخرى يظل هو الأقوى. تظهر أوروبا أكثر احتياجا للشرق الأوسط من أى وقت مضى بعد أن فقدت مصدرا مهما للطاقة، وأقصد روسيا. هى أيضا تبدو لنا أقل وحدة وتماسكا بالرغم من استمرار التهديد الروسى ماثلا ونتيجة للثقة المتضائلة فى توجهات أمريكا وسياساتها المتقلبة بين تركيز على آسيا والعودة المفاجئة للشرق الأوسط. من ناحية أخرى تظهر إفريقيا لنا وهى تبتعد تدريجيا عن خيار الديموقراطية نظاما للحكم فيها، بخاصة وقد عادت أو تعود، ساحة للتنافس بين الدول الكبرى، الأمر الذى يذكرنا بمرحلة السباق على مواقع الثروة الطبيعية فى إفريقيا وهى المرحلة التى كانت سببا مباشرا فى نشوب حرب عظمى. هذا التصور يثير من جديد وبإلحاح شديد حاجة إفريقيا الماسة والمتجددة إلى نقلة نوعية فى برامج وجهود التكامل الاقتصادى وحاجة الشعوب الإفريقية عامة، عربا وغير عرب، إلى الثقة بالنفس وتسوية النزاعات التى نشبت وتنشب بين حكامها.
أما الإقليم العربى، أو ما اصطلحنا على تعريفه بالنظام الإقليمى العربى، فلعله من أكثر أقاليم العالم تأثرا بحال الفوضى الضاربة أطنابها فى العالم بأسره. فمن نظام القمة الدولية نزولا إلى اللانظام فى منطقة جنوب المحيط الهادى مرورا بنا فى النظام الإقليمى العربى عاشت الإنسانية فترة أقرب شبها بحال الفوضى. لأعوام عديدة، كنا فى إقليمنا العربى والشرق الأوسط نموذجا للعجز عن التوحد فى مواجهة تهديدات خارجية من كل نوع تقريبا. بدونا عاجزين عن وضع خطة مشتركة لمواجهة فيروس الكوفيد 19، بدونا أيضا عاجزين عن مساندة الشعب الفلسطينى بأكثر من عبارات التنديد بالوحشية الصهيونية ومقالات التشجيع. كنا شهودا على الزيادة فى حجم ونوع الحرج الذى أصاب عواصم عربية عديدة ومؤسسات إقليمية كالجامعة العربية بسبب هذا العجز فى فعالية النظام العربى. تراخت بالتدريج الإرادات العربية فتراخت بالتبعية الإرادة الكلية لنظام إقليمى صار بالفعل مهددا بالزوال.
الأسباب كثيرة وبعضها مبرر من الناحية الموضوعية، أهمها على الإطلاق، الحال التى آلت إليها عملية صنع السياسة الخارجية فى كثير من العواصم العربية تحت ضغط أمريكى مكثف، وضغط إيرانى بالتدخل غير المباشر، ولكن المسلح أحيانا، فى شئون الدول العربية، وضغط تركى منتهزا فرصة التفكك العربى لاستعادة موقع قدم كان الظن أنه ممكن، وضغوط اقتصادية ودبلوماسية عربية أضافت حرجا إلى حرج عواصم انكشف فجأة حقيقة عجزها عن الفعل وعن صنع مبادرات لإنعاش برامج التكامل وعن إنقاذ المكانة الجماعية العربية من كبوتها وقد طالت الكبوة حتى تفسخت بالفعل بعض وشائج الرابطة العربية.
• • •
لا شك فى أننا نقف عند مفترق طرق. يرى البعض منا بوادر صحوة من على البعد تتقدم. يرى البعض الآخر على البعد فلولا من تجارب ونوايا اختارت الرحيل أو الاستسلام. أيدينا وعزائمنا ممتدة لتقابل بالتشجيع والأفكار أهل الصحوة، ولكن مهما حاولنا واجتهدنا فلن نلحق فى الوقت المتبقى لنا بمن رحلوا أو بمن استسلموا. دعونا على كل حال نحاول ونجتهد.