فى ظل التطور التكنولوجى الذى نعيشه، وتسمرنا أمام الشاشات، بدأت الأجيال تدخل فى حالة من فقر الروح الجمالية. فى ضوء ذلك، نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالًا للكاتب يوسف الحسن، دعا فيه المؤسسات التعليمية إلى ضرورة الاهتمام بتنمية الجانب الوجدانى والشعورى لدى الطلبة، والكف عن التركيز فقط على المهارات العلمية والعملية بدعوى احتياجات سوق العمل.. نعرض من المقال ما يلى:
من أبرز مهام التربية تحقيق نمو متوازن لشخصية الإنسان. لا يكفى أن نعطى كل الاهتمام إلى تنمية المهارات العلمية والعملية فى مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية تحت ضغوط أطروحة «سوق العمل»، وإنما يتوجب العناية أيضًا بتربية الوجدان والشعور والتذوق، و«الضمير الجمالى» والأفكار المكتنزة بالخيال والعلوم الإنسانية.
فى ظل الحياة الحديثة، وتسارع حركة تغير الأشياء والأدوات وأنماط الحياة، يُخشى أن نكون قد أدخلنا جيلًا فى فضاء الخواء النفسى وفقر «الضمير الجمالى»، وعلى وشك أن يخلد إحساس الإنسان بالقيم الجمالية فى الطبيعة والفنون والكون إلى النوم.
ساعات طويلة من اليوم نتسَّمر خلالها أمام شاشات «اللاب توب» والهواتف المحمولة، لا شىء يُحرِّك شغاف القلب، ولا روح الإنسان، ويغيب كل ما يبدعه من متعة الكشف والتفسير لظواهر الجمال فى الكون وفى مجالات الفنون والفلسفة والأفكار وجواهر الحضارات الإنسانية.
يستطيع الإنسان أن يُشبع احتياجاته المادية، من تقدم اقتصادى وصناعى وتقانة، لكن امتلاكه الحاجات الجمالية الرفيعة يحتاج إلى تربية وبيئة مواتية تساعدنا على ممارسة التأمل والدهشة وامتلاك الشعور الرهيف، وصقل الذوق، وتقدير معنى الجمال فى خلق الله، من كون وطبيعة ومخلوقات وأشياء بصرية وسمعية، وفنون عمارة وتشكيل ونحت وشعر ورواية ومسرح وموسيقى وحقول ثقافية أخرى نتذوقها ونقدرها وترتقى النفس بها.
يوقظ إحساس الإنسان بالقيم الجمالية كل مشاعر الخير فيه، ومعانى التراحم والتعاون والتسامح والغيرية والاهتمام بالآخرين، والرفق بالطبيعة وصونها من التلوث والضوضاء والانتحار.
نتحدث عن جماليات الفنون الجميلة كأداة تواصل بين البشر، نتحدث عن جماليات اللوحة الفنية، والتمثال حينما نتلمسه بأصابعنا، عن قصيدة الشعر، ومقطوعة موسيقى ورواية، وزخرفة جمالية معبرة، وما لكل ذلك من أثر فى المشاعر والأفكار والمواقف، ووجهات النظر فى أنفسنا وفى الحياة والمجتمع.
نتحدث عن مشاعر المشاركة الوجدانية، من فرح وحزن، وقلق وأمل، نتعرف إلى الطبيعة الإنسانية الفردية والجمعية، حينما نقرأ أعمال تولستوى وغارسيا ماركيز وباولو كويلو ونجيب محفوظ وشكسبير وغيرهم، وكذلك حينما نتعرف إلى نحاتين وفنانين تشكيليين وشعراء وموسيقيين.
وحينما نستمع إلى بيتهوفن، نتعرف إلى جماليات التاريخ الاجتماعى لأوروبا فى أواخر القرن التاسع عشر، وتشكل أشعار سيد درويش والأبنودى وصلاح جاهين لوحات جميلة للروح المصرية والعربية.
توقظ هذه الجماليات الرفيعة وأمثالها مشاعر التآلف مع الآخر وتعزز السلام الداخلى فى النفس، وتخلّص المرء من مشاعر الإحباط والسوقية والتعصب والسلوك الفج وحصار الروح.
عبَّر عن جماليات الفنون وآيات التذوُّق والجمال، الشيخ الأزهرى مصطفى عبدالرازق فكتب مقالًا فى جريدة «السياسة المصرية» فى 28 سبتمبر 1925، أثناء رحلته إلى باريس، وقال: «تدخل باريس محزنًا، فيذهب عنك الحزن، وتدخلها ضجرًا فيفارقك الضجر، وتكون مثقلًا بأعباء الحياة، فتخفف عنك باريس أعباء الحياة».
تحدث الشيخ أيضًا عن معمار باريس، وميادينها وشاطئ «السين»، وظرف صناعاتها وآثارها البديعة، «مذكرات مسافر: رحلة شيخ الأزهر إلى أوروبا 1909 - 1914».
زار الإمام الشيخ محمد عبده، أثناء رحلته لجزيرة صقلية فى عام 1903، المتاحف والآثار التى تحكى آثار الغابرين، وزيّن ملوك وخلفاء الأندلس قصورهم فى غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة بالرسوم الجميلة، والتماثيل للطيور والحيوانات والنباتات، ووضعت فى المساجد رسوم مستوحاة من سور القرآن الكريم، وما زال قصر الحمراء فى غرناطة، المشيَّد فى النصف الثانى من القرن العاشر الميلادى، أبرز السمات الجمالية للعمارة الإسلامية، ومن طيِّبات الحياة الإنسانية.
ويذكر أستاذ تاريخ الفن الأندلسى والإسلامى فى جامعة غرناطة، المستعرب خوسيه بويرتا، الإسبانى المولود فى غرناطة عام 1959، فى كتابه «الجمالية فى الفكر الأندلسى» أن «الإرث الحضارى الإسلامى، بمختلف أشكاله وتعبيراته الفكرية والشعرية والفنية والمعمارية، يعبِّر عن عالم جمالى متكامل، له رموزه، وله دلالاته الخاصة به»، وأن هذه الجمالية لها «مسوغاتها الفلسفية والروحية، وليس مجرد حرفة يدوية، أو زخرفة مدهشة».
يضيف أيضًا فى كتابه المذكور، الصادر عن مؤسسة الفكر العربى: «إن جماليات علم البيان والخط العربى والمعمار من قصور وحصون وأسوار وسواقى ماء، ونوافير مرمريِّة، هى جماليات من وحى الجنَّة وجمالياتها».
مفكرون ومؤرخون وعلماء وفلاسفة صاغوا نظريات اجتماعية للفنون الجميلة، بمن فيهم ابن خلدون وابن عربى (فى وحدة الوجود والجمال الكونى).
تربية «ضمير جمالى» من أهم أدوات التفاهم والتعايش بين البشر، فتعالوا لإعلاء شأن الأفكار المكتنزة بالخيال والعلوم الإنسانية.