لم أصادف في حياتي شخصا لا يحب الآيس كريم، وهذا لا يعني أنه لا يوجد في المطلق من لا يحبونه لكنه يعني أنني لم ألتق بواحد منهم، فجميع من حولي مغرمون به، ومشهد صعود حفيدتي على كرسي صغير حتى تبلغ النصف الأعلى من الثلاجة بحثا عن واحد آيس كريم بالكراميل مفحم في حد ذاته، ثم أنه في السنوات الأخيرة تفنن صانعو الآيس كريم في اختراع ما يرضي كل الأذواق، مزجوا برودته مع سائل الشيكولاتة الساخن، وانتشر الآيس كريم بكل المذاقات الممكنة حتى الزبادي بالتوت وأوراق النعناع وحبوب المستكة والبن والمكسرات، وهكذا نشأ توافق واسع على حب الآيس كريم إلى حد التحايل به على بعض الأطعمة الدسمة عندما نوحي لأنفسنا أن الآيس كريم سوف يساعدنا على "الهضم "!
***
أما تورتة الآيس كريم فإن لها وضع خاص والموقف منها ليس واحدا، فكما كان يخاطب المعلقون على مباريات كرة القدم الجمهور بالقول: إن كنت تجلس في مدرجات الدرجة الأولى يكون فريق كذا على يمينك والفريق الآخر على يسارك وإن كنت تجلس في مدرجات الدرجة الثالثة يكون الوضع عكسيا، أقول على نفس منهج هؤلاء المعلقين يكون الحكم على تورتة الآيس كريم. فإن كنت مدعوا لتناولها في حفل شاي عند بعض الأصدقاء فتورتة الآيس كريم تصبح لذيذة جدا وستأخذ منها قطعة كبيرة وربما قطعتين، أما إن كنت متلقيا لتورتة آيس كريم كهدية في إحدى مناسباتك السعيدة فكان الله في عونك، وإلى مزيد من التفاصيل. يفترض من يهديك مشكورا تورتة آيس كريم أن لديك متسعا في الجزء الخاص بالتبريد (الفريزر) لاستقبال هذه الضيفة العزيزة وغالية الثمن أيضا بعد الزيادات المتتالية في الأسعار، لكنه فرض غير صحيح تماما فالفريزر عادة ما يكون مملوءا على آخره : أكياس خبز وربما فطائر ودقيق، خضروات وعصائر مجمدة، أطعمة مطهوة ومحفوظة، بعض اللحوم والدواجن وقوالب الثلج.. إلخ، وبالتالي فإن الزج بتورتة آيس كريم وسط مغارة علي بابا يكاد أن يكون شبه مستحيل. بطبيعة الحال يوجد بين الأشياء السابقة ما ليس له لزوم، وردا على السؤال المنطقي الذي سيتبادر إلى ذهن القارئ المحترم وهو: لماذا الاحتفاظ بما لا لزوم له في فريزر الثلاجة؟ أقول: المبرر هو نفسه الذي يجعلنا نحتفظ بملابس لا نرتديها وكتب لا نقرأها وڤيديوهات لا نشاهدها بل ولم يعد هناك أصلا جهاز لتشغيلها، وهذا المبرر قد يكون هو توهم أننا في يوم ما سنتمكن من ارتداء وقراءة ومشاهدة المخزون الكبير من أشيائنا تلك، وقد يكون المبرر هو ارتباطنا الوثيق بأشيائنا مع أن الارتباط بالذكريات والصور أمر مفهوم أما الارتباط بأكياس الخضراوات والطعام المجمّد فيبدو غريبا بعض الشيء، وأخيرا قد يكون المبرر هو تكاسلنا وهو مبرر معقول جدا بالمناسبة خصوصا لمحبّي الفوضى وهم كثيرون بيننا. المهم في الأمر أن تورتة الآيس كريم كهدية تكون سببا في مشكلة .
***
دق جرس الباب وما كنت أنتظر أحدا، فتحت لأجد الصندوق الإسفنجي الضخم والخاص بتورتة الآيس كريم يخفي وجه حارس العمارة، ما هذا؟ دفع الحارس بالصندوق البارد بين أحضاني ورد: مدام في عربية جابتها لحضرتك ثم انصرفت. وجدت نفسي في موقف لا أُحسد عليه فمطلوب مني أن أبحث عن إبرة في كوم قش لأحل لغز المرأة التي تقود سيارة، ومطلوب مني أن أحل لغز المكان وأجد للتورتة الفخمة مساحة تستقر فيها، لا ..لا .. لغز المكان كان هو اللغز العويص الوحيد الذي يستوقفني، أما مسألة المدام ذات السيارة فأمرها سهل لأنها سوف تتصل بي للتأكد من وصول التورتة وتشرح لي سبب هذه المجاملة المفاجئة فعلى حد علمي لا توجد أعياد ميلاد وانتهت من سنين فرص الترقية الوظيفية. في أفلام زمان كانت توجد شخصية صعيدية شهيرة يؤديها الممثل محمد أبو شرابة، وصاحب هذه الشخصية يُدعَي عبد الرحيم وحيثيته أنه كبير الرحيمية قبلي أو جِبلي كما ينطقها. كانت للشخصية سمات شكلية خاصة كما كانت له بعض العبارات المميزة شاعت منها عبارة: تتصرف كيف يا عبد الرحيم ؟ فما أن كان كبير الرحيمية يواجه مشكلة ما حتى يروح يكرر بشكل كوميدي: تتصرف كيف يا عبد الرحيم تتصرف كيف يا عبد الرحيم ؟ وفي حالتي أنا وقد استكانت تورتة الآيس كريم وادعة بين ذراعّي فإن عبد الرحيم بالفعل لم يكن يدري كيف يتصرف .
***
وسّدت التورتة أقرب مائدة طالما أنه لابد مما ليس منه بد ورحت أبحث عن مساحة خالية. في لحظة بدت جميع محتويات الفريزر على درجة واحدة من الأهمية وفي النهاية كلهم أولادي! استعملت كل مهاراتي في المناورة والتنسيق، استدعيت خبرات سابقة أسوأ من الحالية عندما يكون عليّ أن أحشر أكثر من تورتة آيس كريم واحدة في الفريزر.. يا مهون يارب. تبّا لهذا العلبة الضخمة التي أراها من أسابيع عدة حتى نسيت ما بها.. لكنها أيضا مهمة. العَرَق يتصبب والنَفَس يضيق والوقت يمر ولا تلوح بادرة أمل، هل أطلب مساعدة الجيران؟ ولم لا؟ يحدث هذا أحيانا هم يحفظون عندي طعاما وأنا أيضا، ما كان هناك داع أصلا لكل هذا الجهد. أغلقت باب الفريزر على ما بداخله وخطفت التليفون لأستأذن الجارة، أما في خلفية المشهد فكانت سوائل الڤانيليا والشيكولاتة قد تسربت بكثافة من الصندوق الإسفنجي وجعلت منه قاربا يعوم في بحر من الآيس كريم اللذيذ !