الأوليجاركية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الجمعة 31 يناير 2025 1:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الأوليجاركية

نشر فى : الخميس 30 يناير 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الخميس 30 يناير 2025 - 8:05 م

فى خطابه الأخير الذى ألقاه الرئيس الأمريكى جو بایدن قبل توديع منصبه فى البيت الأبيض، حذر خلال كلمته من الأوليجاركية التى جعلت الثروة والنفوذ تتركز فى يد دائرة صغيرة من المجتمع بما يتيح لها القدرة على السيطرة عليه بشكل يخل بالعدالة وبتكافؤ الفرص، ويتيح لها التكسب من نشر أخبار مغلوطة تهدد سلامة واستقرار المجتمع.
استطرد الرئيس المنتهية ولايته أنه لا يدعو إلى عقاب الأثرياء أو معاداتهم لكن يدعو إلى أن يكون نشاطهم خاضعا لرقابة الدولة والمجتمع حتى لا يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، لم يكد يمر يوم واحد على تولى الرئيس ترامب حتى تبدى معنى الأوليجاركية فى أوضح شكل عندما أصدر الرئيس ترامب عفوا رئاسيا عن المدعو روس أولبريشت Ross Ulbricht، وهو شاب من ولاية تكساس حكم عليه بحكم مزدوج بالسجن مدى الحياة واستنفذ كل سبل الاستئناف على الحكم، حتى وصل الأمر إلى المحكمة العليا supreme Court التى أيدت الأحكام الصادرة فى حقه. فمن هو هذا الرجل الذى ضرب رئيس الولايات المتحدة من أجله القانون بعرض الحائط؟
• • •
هو شاب مجتهد تخرج من مدرسته الثانوية بتفوق وحصل على منحة للدراسة بجامعة تكساس فى دالاس، حيث حصل على بكالوريوس فى الفيزياء وبسبب تفوقه حصل على منحة لدراسة الماجستير فى جامعة بنسلفانيا حيث حصل على ماجستير فى الهندسة فى عام 2008، أسس أولبريشت فى سنة ٢٠١١ موقع The Silk Road، وذكر أنه استلهم الاسم من طريق الحرير الذى أتاح للناس الحصول على کل احتياجاتهم مهما كانت من جميع أنحاء العالم- وكان الموقع يعمل من خلال «الشبكة المظلمة Dark web»، الذى يعمل بشكل سرى ولا يمكن الدخول إليه إلا من خلال شفرات سرية.
لقد تعرفنا على «الشبكة المظلمة» فى مصر من خلال حادث الصبى الذى استأجر مجرما لذبح طفل فى شبرا منذ عام، وصور جريمته ليعرضها مقابل مبالغ طائلة فى الشبكة المظلمة. ونشط موقع طريق الحرير فى مجالات إجرامية عديدة منها: تجارة المخدرات، والجرائم السيبرانية، والتزييف وغيرها. أثار الحكم على أولبريشت ردود فعل شدیدة وصارت قضية رأى عام، وطالبت جماعات كثيرة بالعفو عنه وتم تقديم عريضة وقع عليها ٦٠٠ ألف شخص طالب بإخراجه من السجن، ووصل الأمر إلى الحملة الرئاسية حيث تبنى القصة ترامب ووعد بالعفو عنه إذا فاز بالانتخابات، كذلك المرشح فى المرحلة الأولى روبرت کينيدى جونيور.
• • •
يثور التساؤل لماذا يتصدى الرئيس الأمريكى للعفو عن مجرم مدان من أعلى درجات المحاكم، ومنها المحكمة العليا، وتؤكد أجهزة الأمن تورطه الإجرامى بشكل لا جدال فيه، ولعل هذا شكل من أشكال الأوليجاركية فجاجة عندما تضغط من أجل مكاسب تحققها، ضاربة بعرض الحائط القانون ومبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء. لعل من المفارقات أن ترامب أراد أن يجعل من موضوع العفو أمرا شعبويا مسيسا، فتحدث عن فتح التحقيق فى اغتيال الرئيس جون کينیدی ومارتن لوثر كينج بل وحتى العفو عن الملاكم محمد على الذى سبق أن شمله عفو الرئيس جيمى كارتر.
للسلطة الرئاسية فى العفو تاريخ وسوابق فى الولايات المتحدة، ولعل أشهرها وأكثرها تمثيلا لقدرات الأوليجاركية قضية باتريشيا هيرست، حفيدة إمبراطور الصحافة الأمريكية والمليونير وليام راندولف هيرست، التى هربت من أسرتها فى عام ١٩٧٣ وانضمت إلى منظمة جيش التحرير السيمبيونى Symbionese Liberation Army الإرهابية، وشاركت فى عدد من العمليات منها السطو المسلح على بنك وتفجير منشآت عامة، وألقى القبض عليها فى عام 1976، وأدينت بعد أن صورتها کامیرات المراقبة وتعرف عليها الشهود وحكم عليها بالسجن المؤبد إلا أنه بفضل نفوذ أسرتها فقد شنت حملة إعلامية مكثفة تدعى أن الفتاة اختطفت وتعرضت للتعذيب وغسيل المخ وكانت ضحية للخلية الإرهابية، وإن كل ما قامت به تم رغم إرادتها، ولم يمض على باتريشيا هيرست سوى سنتين فى السجن وأصدر الرئيس جيمى كارتر قرارا بالإفراج عنها، ثم عزز الرئيس ريجان قراره بإصدار عفو رئاسى شامل عنها.
• • •
كان المال دائما عنصرا هاما فى السياسة التى لم يقدر على خوضها سوى الأثرياء أو المدعومين من الأثرياء إلا أنه لم يسبق أن وصل إلى البيت الأبيض شخص فى ثراء دونالد ترامب وحتى ابن أسرة المليونيرات العريقة نلسون روكفلر لم يصل إلا إلى منصب نائب الرئيس مع الرئيس غير المنتخب جيرالد فورد.
ومنذ ولايته السابقة كرئيس وفى خلال حملته الانتخابية الأخيرة ركز ترامب على الأمور التى تخدم مصالح رأس المال، مثل: فرض الرسوم الجمركية على الواردات من الصين، والاعتماد على القوة العسكرية لابتزاز العالم واعدا بأن يجعل الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية فى العالم، وهو وعد أجوف لا معنى له لأنها فعلا أقوى دولة فى العالم ويبلغ إنفاقها العسكرى أكثر من إنفاق العشر دول التالين لها مجتمعين.
أعلن ترامب أيضا نيته فى الهبوط على المريخ، وهو أيضا تصريح فيه لغط فقد وصلت الولايات المتحدة بمركبات فضائية إلى المريخ سبع مرات منذ عام 1971، ولعله يقصد إنزال رجل فضاء أمريكى إلى أرض المريخ، ويظل الغرض من هذا التصريح دعم الشوفينية الأمريكية والسعى إلى الدعم الشعبوى الذى حققه الرئيس كينيدى، الذى وعد شعبه بإنزال رجل فضاء أمريكى على القمر خلال عقد من الزمن.
• • •
إن اعتماد ترامب على رجال الأعمال وضم البليونيرات إلى طاقم إدارته ينذر بتعاظم دور الأوليجاركية التى باتت لا تخفى استخدام النفوذ بالمال والقوة لتحقيق أغراضها، فباتت تدير العالم بقوتها العسكرية بل وباتت تدير أمريكا داخليا بالشعبوية الفجة، وكان العفو عن الذين أساءوا للتبادل السلمى للسلطة فى أحداث الكابيتول بإرهاب المشرعين ورفض نتيجة الانتخابات بمثابة الضوء الأخضر للغوغاء. ولعل الأخطر فى هذا الأمر هو انتشار مفهوم الأوليجاركية عالميا، فبات التحالف الغربى وحلف الشمال الأطلنطى يحتكر القوى العسكرية والاقتصادية والإعلامية والسياسية وبات يبطش بكل من يعارضه، فاختلت معايير العدالة وسادت المعايير المزدوجة والنفاق السياسى، فصارت كوبا دولة الشر وجمهوريات الموز الفاشية هى الحليف، وصار الألم متمارسا ضد البرنامج النووى الإيرانى ويغض الطرف عن الترسانة النووية الإسرائيلية، وصار دفاع روسيا عن حدودها عدوانا أثيما فى أوكرانيا، وصارت المذابح والجرائم التى ارتكبتها إسرائيل حقا شرعيا فى الدفاع عن النفس.
لقد اختلت الموازين منذ سقوط كل الخطوط التى توازن جبروت الأوليجاركية الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو وحركة عدم الانحياز، وباتت التنظيمات التى كانت تمثل دول العالم الثالث مثل مجموعة الـ ٧٧ والأونكتاد مجرد واجهات كارتونية لا حول لها، وفى منطقتنا العربية والشرق الأوسط صارت الجامعة العربية منصة للشجب والإدانة والاستنكار دون فاعلية أو مجرد رأى.
لقد بدنا كعرب أكبر المهددين بالأوليجاركية العالمية وصار الحديث علنيا عن إعادة تقسيم عالمنا العربى الذى تغيير مسماه إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفقدنا السيطرة على مصيره ومساره الذى بات يتحكم فيه قوی إقلیمية: إسرائيل، وإیران، وتركيا، وقوی دولية متمثلة فى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى.. فهل ننتبه للخطر ونضم الصف لمواجهته؟

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات