سألت عن السعادة ومعناها. لم تفاجئنى الإجابات بقدر ما فاجأنى التفاوت بينها. قالت الشابة صغيرة السن إنها سعيدة والسبب هو أنها تؤمن بالسعادة إيمانا مطلقا. لم أفهم ما عنته بالإيمان المطلق بالسعادة إلا عندما أفاضت فقالت: الإنسان السعيد هو الذى يمارس كل ما يظن أنه يحقق له السعادة ولا يمارس ما يظن أنه يمكن أن يحرمه منها.
هي، مثلا، وكما وصفت نفسها، تفرط فى استهلاك ما تشاء استهلاكه، وتستمتع باللذات المتاحة بدون تأنيب ضمير أو شعور بالذنب. تشاهد أفلاما سينمائية لا تتطلب تركيزا فلا قصة ولا حبكة ولا هدفا. تفعل كل ما يضاعف سرورها وتبتعد عن كل ما يمكن أن يسبب لها ألما. وأضافت أنه لا مانع من تناول المخدرات أقراصا وبودرة ودخانا إن كان تناولها يحقق لها الابتعاد عن الألم والكآبة والاقتراب من السرور والانشراح. هذه هى السعادة كما يعرفها قطاع من أبناء وبنات جيل جديد لا نملك إنكار وجوده.
***
أما المسئول الكبير الذى توجهت له بالسؤال عن السعادة فيقرر أن السعادة ثمرة الزيادة فى الناتج القومى .
كل 1٪ زيادة فى الناتج القومى تعنى 1٪ زيادة أو أكثر فى السعادة «القومية» أو فى عدد السعداء. لم يفهم المسئول الكبير أو، لعله تجاهل، تتمة سؤالى عن معنى أو قيمة هذه الزيادة فى الناتج القومى حتى إن بلغت 8٪ سنويا إذا المواطن فى الواقع لا يشعر بالسعادة .كذلك رفض المسئول الكبير التعليق على اقتراح أن تضع الحكومة تقريرا سنويا عن نمو «السعادة القومية» خلال العام، وتحديد نسبة معينة من السعادة هدفا فى خطة العام القادم أو فى الخطة الخمسية.
تذكرت أنهم فى الولايات المتحدة يقيسون معدل السعادة لدى المواطن الأمريكى بعدد ساعات عمله وإنتاجيته. فالحلم، أو الوهم الأمريكى، يستدعى عملا مستمرا وإنتاجا أكبر أملا فى أن يعثر كل مواطن على طريقه المؤدية إلى السعادة .
وقد نشرت دار بينجوين كتابا لرتشارد لايارد بعنوان «السعادة» يقول فيه إن المواطن الأمريكى فى عام 2005 مقارنا بالمواطن الأمريكى فى عام 1951 لديه طعام وملابس وسيارات أكثر ومنزل أكبر ويقضى وقتا أطول فى العطلات ويعمل فى أجواء أفضل، وفوق هذا وذاك يتمتع بصحة أوفر، ومع ذلك يشعر بسعادة أقل.
ويحاول فى دراسته أن يثبت أن النقص فى السعادة رغم تحسن مستوى المعيشة يعود إلى سببين، أولهما أن الجينات فى أجسامنا مسئولة عن النقص فى استعدادنا لنشعر أو لا نشعر بالسعادة، وثانيهما، وهو السبب الأهم، أن رغباتنا كبشر تعتمد على ما لدى الآخرين ولا تعتمد على معايير مطلقة. فالإنسان يهتم أكثر بمقارنة حاله بحال أصحاب الدخل الأكبر وليس بمقارنة حاله بحال أصحاب الدخل المماثل أو الأقل.
ويقول إن الإنسان إذا خير بين أن يكون دخله 10.000 دولار بينما أقرانه يحصلون على 2000 دولار أو أن يكون دخله 100.000 بينما أقرانه يحصلون على 250.000 سوف يختار فى الغالب الخيار الأول.
***
من هنا يرى لايارد أن السعادة ثمرة رضاء أكثر منها ثمرة سرور أو لذة أو استمتاع، فالاستمتاع يشبه الجرى على آلة الركض المثبتة على الأرض، تجرى وتجرى وتجرى ولا تصل ولن تحصد إلا التعب وبعض التعاسة.
الرضاء عاطفة تتولد لإشباع حاجة لدى الإنسان تحثه على أن يقدم معنى لكل عمل يؤديه أو فعلا يفعله أى أن الرضاء تحصل عليه بإرادة واعية وقرار بالفعل، أما الاستمتاع فيحصل بالصدفة كأن يكسب الإنسان ورقة يانصيب أو يولد فى أسرة غنية. الفرق شاسع بين الرضاء والاستمتاع تماما كالفرق بين الوجود بإرادة والوجود بالمصادفة.
***
قال لى حكيم، وهو صديق قديم، إن السعادة عند بعض مواطنينا المصريين هى أن توحى لمواطن آخر بأنه سعيد وتتمسك بهذا الإيحاء حتى ينتهى الأمر باقتناع هذا المواطن بأنه فعلا سعيد. كانت وسيلة هذا الحكيم لإقناعنا بوجهة نظره أن فرض علينا الاستماع أكثر من مرة فى جلسة واحدة إلى محمد عبدالوهاب وهو يشدو برائعته «محلاها عيشة الفلاح».
كدنا من فرط حلاوة الأغنية نخرج مقتنعين بأن الفلاح المصرى الذى يغنى عنه وله عبدالوهاب إنسان سعيد، فما بالك بالفلاح نفسه الذى يستمع لها؟.
***
أعرف كثيرين، إذا شعروا ذات مرة بسعادة لرؤية شخص أو لتناول «أكلة» لذيذة أو شاهدوا عملا فنيا ممتعا، فإنهم يعودون ليكرروا التجربة مرات ومرات. فى كل مرة من هذه المرات يتصورون أنهم سعداء سعادة المرة الأولى. هؤلاء لا يدركون خطأهم. لا يعرفون أن «التعوّد» عدو السعادة، وأن السعادة، بلغة الاقتصاديين، متناقصة الغلّة.
السعادة حالة نادرة للغاية وعمرها قصير جدا وقدرتها على الصمود فى وجه المنغصات والأزمات ضعيفة. لا يعرف هؤلاء أن الأشياء البديعة تكون أبدع فى أول ظهور أو فى أول ممارسة، وتقل روعتها فى كل مرة أخرى تظهر فيها، أو مع كل ممارسة جديدة لها.
***
كانت السعادة، وما زالت، الشغل الشاغل للفلاسفة والعلماء وكذلك للناس العاديين، ناس مثلك ومثلى. اهتم بها فلاسفة اليونان وكتب عنها جون لوك يقول إنها، أى السعادة، الشغل الشاغل للإنسان فى كل العصور وفى كل الأنحاء. ويدفع جورج أورويل برأى يؤكد قول لوك فيقرر أن الناس يشعرون بالسعادة عندما يمتنعون عن التفكير فيها والبحث عنها.
وبعيدا عن الفلسفة والفلاسفة وببساطة متناهية، أنت سعيد أو أنت سعيدة، إذا كنت تسعى أو تسعين بين يوم وآخر لمشاهدة الشمس وهى تشرق ومشاهدتها وهى تغرب. وأنت سعيد وأنت سعيدة إذا انتظرت وتابعت ولاحظت الشجر يغير ألوان أوراقه. بالأمس رأيت السعادة على وجوه اليابانيين كهولا وأطفالا وقد خرجوا لمشاهدة الورق الأخضر يكتسى اللون الأبيض أو الزهرى.
***
أنت سعيد وأنت سعيدة إذا كنت تبحث أو تبحثين عن الأشياء الجميلة وإذا كنت لا تبخل أو تبخلين فى التعبير عن إعجابك.