أتابع بقلق السجالات الفكرية والسياسية الساخنة، التى وصلت أحيانا إلى حد التعارك، حول ما بدا أنه اختلافات فى الرؤى فيما يتعلق بقضية الدستور وقضية هوية الدولة ودور الدين فى السياسة وحقوق المواطنة. وأتابع ما أبرزته هذه الخلافات من تناقضات ومخاوف بين الأغلبية المسلمة والأقلية الدينية القبطية فى بعض الحالات، وبين الأغلبية المحافظة والأقلية الفكرية الليبرالية فى حالات أخرى.
إلا أنه من الملاحظ أنه لا توجد اعتراضات حقيقية من قبل الأقليات فى مصر، سواء الدينية منها أو الفكرية، ضد الهوية الإسلامية الثقافية لمصر. القضية الحقيقية كما أفهمها هى مخاوف الأقليات من استخدام الدين، أو المادة الثانية من الدستور، لكبح حرياتهم الأساسية، سواء كانت هذه الحريات تتعلق بممارسة شعائر دينية مقدسة، أو بممارسة حريات خاصة تتعلق بالملبس والمشرب والمسكن، أو حريات التعبير بما فيها من حرية التعبير الأدبى والصحفى والفنى.
ومن حسن حظ ثورتنا المصرية أنها جاءت بدون أى دور كاريزمى لزعامة فردية أو أى دور بارز لإحدى القوى السياسية، ولا يوجد صوت مرتفع لرأى على آخر أو لجماعة ضد أخرى. لذا تموج الحياة السياسية اليوم بديناميكيات متشابكة بين قوى عديدة مثل جماعة الإخوان والسلفيين والليبراليين والأقباط والأحزاب السياسية، وغيرهم، فى سابقة لم تعرفها الحياة السياسية فى مصر من قبل.
ومصر، التى تمر حاليا، كدولة وكثورة وكمجتمع، بمرحلة مخاض حرجة تتطلب منا النظر والاقتداء بتجارب دول نجحت ثوراتها ونجحت تجربتها الدستورية فى خلق إطار قانونى دستورى يحافظ على حقوق الجميع سواء مثلوا الأغلبية أو الأقليات. ويمكن لنا أن نأخذ ما نراه مناسبا لمصر، وأن نقوم بتمصير تجارب الآخرين، وأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون.
ما تحتاجه مصر الآن هو «وثيقة حقوق مصرية» تعمل كمانع صلب ضد طغيان الأغلبية، وكذلك ضد تعسف الأقليات، وضد أى انحراف يمكن أن تنساق إليه الثورة، بحيث تضمن الوثيقة التوازن بين الحاكم وبين المحكومين فى الحاضر والمستقبل، وأن توفر ضمانا ضد أى استبداد الآن، ولعقود قادمة.
وبما أن «وثيقة الحقوق» ستجنبنا مخاطر عدة، وتبنى وثيقة حقوق من شأنه حماية الحقوق الأساسية للمصريين بغض النظر عمن سيئول إليه النصر فى المعارك الدائرة حاليا، وبغض النظر عن تركيبة مجلس الشعب القادم، وبغض النظر عن اختيار وتشكيل لجنة كتابة الدستور الجديد. فلماذا لا يتم تبنى مثل هذه الوثيقة سريعا حتى قبل أن يكتب الدستور الجديد
يشهد التاريخ من حولنا تجارب ثورية جاءت نتيجة وجود استبداد داخلى أو وجود احتلال خارجى، وبعد نجاح الثورات لم يتحقق بالضرورة هدف إقامة دولة عدالة ومساواة وحريات ومؤسسات.
ثورة إيران ادعت أنها تهدف لإقامة نظام ديمقراطى، وتبنت نظاما يسمح بانتخاب الرئيس لفترتين كحد أقصى، وحددت مدة الرئاسة بأربع سنوات فقط، إلا أن تجاهل حقوق المواطنين الإيرانيين وحرياتهم الأساسية أجهض الثورة وأعادها إلى أحضان ديكتاتوريات دينية وسياسية منتخبة.
ونفس السيناريو عرفته الثورات العربية على مدار تاريخها رغم أنها ولدت برضاء شعبى واسع. إلا أن هذه الثورات نجحت فقط فى إزاحة المحتل الأجنبى واستبدلته بديكتاتوريات محلية عسكرية فى الأغلب. ولم تنجح الثورات الشرق أوسطية فى إقامة ديمقراطية سياسية، ولم تنجح فى تحقيق رفاهية اقتصادية.
وإذا ما تركنا الشرق الأوسط وغربنا لوجدنا فى التجربة الأمريكية نموذجا يستحق الاقتباس. فبعد نجاح الثورة الأمريكية وإعلان الاستقلال الأمريكى عن التاج البريطانى عام 1776، كان من أهم القضايا التى واجهت الدولة الجديدة هو تحديد شكل نظام الحكم، وحقوق المواطنين وواجباتهم تجاه ولاياتهم ودولتهم، ودور الدين فى الحياة السياسية.
ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك أقدم دستور مكتوب فى العالم، ورغم أن الدستور الأمريكى هو أكثر الصادرات الأمريكية شعبية حول العالم، وأقدمها على الإطلاق، فقد اقتبست العديد من دول العالم مثل البرازيل وبلجيكا والنرويج والمكسيك، خبرة كتابة دساتيرها مهتدية بالتجربة الأمريكية. إلا أن الدستور لم يكن كافيا فى نظر الكثيرين بسبب عدم ضمانه للحقوق الأساسية للمواطنين، وعدم ضمانه عدم ممارسة الدولة استبدادا أو ظلما ضد مواطنيها فى المستقبل. وتمت الموافقة على وثيقة الحقوق فى وقت لم يكن يعرف المجتمع الأمريكى وجود أقليات دينية أو عرقية أو طائفية أو لونية. أغلبية سكان الولايات المتحدة حينذاك كانوا من البيض ممن يؤمنون بالبروتستانتية المسيحية.
علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن نتبنى «وثيقة مصرية للحقوق» على شاكلة وثيقة الحقوق الأمريكية the Bill of Rights، التى دخلت حيز التنفيذ فى عام 1791. وتعرضت المادة الأولى من وثيقة الحقوق للحريات الأساسية مثل تلك المتعلقة بحرية الدين، والتعبير، والصحافة وحق الاجتماع والتقاضى.
من حسن حظ أمريكا أنها امتلكت شخصيات كبيرة فى تلك اللحظة الحاسمة من بدء تاريخها، من بين هذه الشخصيات بالإضافة إلى جورج واشنطن (بطل الاستقلال الأمريكى)، توماس جيفرسون الذى ساعد جورج واشنطن كثيرا وكان شريكه فى إعلان الاستقلال. وشغل جيفرسون منصب ثالث رئيس للولايات المتحدة، لكن الأهم انه كان العقل المدبر الذى شكل الفكر السياسى الأمريكى فى هذه الفترة الحاسمة. ويرى البعض أن تأثيره على سياسة الولايات المتحدة كان أعظم من تأثير أى زعيم سابق أو لاحق، وحتى هذا اليوم لايزال شبحه يخيم على السياسة الأمريكية ولاتزال مبادئه تقود هذه الدولة، وغالبا ما يشار إلى الديمقراطية الأمريكية بالديمقراطية الجيفرسونية كدليل على ذلك.
واعتبر توماس جيفرسون إعلان الحقوق صرحا قائما، ومثالا يجذب الشعوب الأخرى للاقتداء به. أفكار مثل (كل الناس قد خلقوا متساوين) وأن (خالقهم وهبهم حقوقا معينة لا يجوز التفريط بها) قد وضعت فى الصدارة كمطلب ثورى أمريكى فى البداية. لاحقا دعا ثوريون يسعون إلى كسر أغلال الظلم وضمان الحرية والعدالة، من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وإفريقيا إلى آسيا، إلى نفس المبادئ. وعلينا وعلى ثوارنا ألا نكون استثناء.