تلقيتُ أثناء مرضي هدايا كثيرة كما يحدث معنا جميعًا، وكلنا نحب الهدايا وننتظرها ونفرح بها حتى في عزّ المرض. تحوّلت غرفتي بالطابق السابع في المستشفى إلى حديقة زهور من كل شكل ولون، وجاوَرَت علب الشيكولاتة اللذيذة علب الأدوية وزجاجات المحاليل الشافية، فكان سائقي الرائع- الذي أهداني بدوره كتابًا كنتُ أبحث عنه من وقت طويل عن العلاقات المصرية الإيرانية- يعود مساء كل يوم إلى منزلي محمّلًا بالغنائم الثمينة. وجهّزت لي السيدتان الطيبتان اللتان تعاوناني في المنزل فراشي بملاءة لطيفة- بنفس الألوان المبهجة التي أحبها- دفعتا ثمنها من كدّهما حتى تكون أول ما يلامس جسدي المرهق بعد رحلة المستشفى فأثرّتا فيّ أيما تأثير. ولم تنسَ زوجة عمّي أن ترسل لي من البلد عجينة الكفتة التي أحبها والمصنوعة من دقيق الفريك وهو مسحوق لا يتوفّر إلا في الأرياف ولا تعرف طريقة طهيه إلا بضع عائلات محدودة في مصر منها عائلة سلطح بابا وعائلتي أنا (ها هي الكتابة تعيدني بالتدريج إلى الروح الفرفوشه التي كنتها منذ شهور طويلة فلا وجود لعائلة سلطح بابا على حدّ علمي إلا في فيلم إشاعة حب). أما جارتي المدهشة فلقد راحت تغمرني بأكل خفيف على المعدة لكنه يكفي لإطعام كل المرضى زملائي في الدور السابع بالمستشفى. نعم تلقيتُ كل هذه الهدايا الجميلة وأكثر منها، لكني سأتوّقف هنا عند نوعين اثنين من الهدايا لأن لهما في تقديري دلالة عظيمة .
• • •
دخلتّ إلى المستشفى لأجري جراحتي الثانية مسلّحة بچركن ممتلئ بمياه زمزم أهدتنيه شخصية أكاديمية مرموقة وزجاجة صغيرة من نفس المياه أهدتنيها زميلتي حاليًا وتلميذتي سابقًا في الكلية. وهكذا فما أن سمح لي الأطباء بأن أبلّل شفتي بقطعة من القطن في ثالث يوم لإجراء الجراحة حتى كان القطن مغمورًا بماء زمزم. الضيوف أيضًا كانوا يشربون معي، فكان زوجي يسألهم كالعادة ماذا تحبون أن تشربوا؟ لدينا عصائر ومشروبات ساخنة متنوعة فكانت الإجابة الفورية هي الاعتذار المهذّب مع الشكر، فما أن يسألهم إن كانوا يحبّون أن يشربوا من ماء زمزم حتى يخّر المياه من الچركن الكبير في أكوابهم لتبدأ تمتماتهم والدعاء. لكن ماء زمزم لم يكن هو سلاحي الوحيد في مواجهة المرض الوَحش، فلقد كنت مسلّحة أيضًا بزجاجتين صغيرتين جدًا أشبه ما تكونان بعيّنتين زجاجيتين ممتلئتين بنوعين من الزيت: زيت العدرا وزيت مار جرجس. قال لي المستشار رفيع المقام الذي أهداني الزجاجتين إن زيت العدرا ينزل من صورتها المعلّقة في كنيسة العدرا والأنبا بيشوي في مدينة بورسعيد، وإن هذا في حدّ ذاته يُعّد معجزةً من المعجزات، وذلك أن الزيت يقطر ببطء شديد من الصورة على مدار العام. ونظرًا لأن كمية الزيت محدودة وأثر الزيت مؤكّد بحكم أنه ينزل من صورة مريم البتول وأم المسيح عليه السلام، يتهافت المسيحيون من مختلف أنحاء الجمهورية من أجل الفوز ببضع قطرات. وأوصاني سيادة المستشار أن أضع بعضًا من هذين الزيتين حول المكان الذي سوف تجري فيه الجراحة ففعَلت وإن اقتصدت قليلًا في الدهان بزيت العدرا لأهدي القطرات المتبقية لسائقي المتفاني في عمله، فكان أن طار بتلك القطرات فرحًا، وهكذا أسعدته وأسعدني.
• • •
ماء زمزم وزيت العدرا ومار جرجس لهما دلالة عامة إذن تتجاوز حدود الدلالة المباشرة التي تخصّني، وهذه الدلالة هي أن العلاقات السوّية بين مسلمي مصر وأقباطها قائمة وموجودة وحاضرة جنبًا إلى جنب مع العلاقات الطائفية والبغيضة والشائهة. ولقد شاءت الأقدار أن تندلع فتنة قرية الفواخر في محافظة المنيا وأنا في المستشفى أشرب ماء زمزم وأدهن الزيت، وكما أرسل لي بعض الأصدقاء المسلمين ڤيديوهات وهم يدعون لي مخلصين بالشفاء أثناء الطواف حول الكعبة، وبعث لي أصدقاء آخرون مسيحيون بأن اسمي موضوع على الهيكل الذي هو أقدس مكان في الكنيسة وأن شموعًا كثيرة أضيئت طلبًا لشفاعة شفائي من القدّيسة سانت ريتا -تلقيّت ڤيديوهات أخرى تحريضية بمناسبة فتنة المنيا من مسلمين لأنهم لا يحتملون رؤية مزيد من الصلبان على أرض مصر، ومن مسيحيين يعتبرون أن الفتح الإسلامي سلبهم مصرهم وهي من حقهم، ومن الواضح جدًا أن هناك استماتة في تأجيج نيران الفتنة. هذه مصر وتلك مصر، ومَن ينكر ويكابر في حقيقة أن التعصّب موجود والاحتقان موجود لا ينظر إلا لمصر واحدة، ومثله بالضبط مَن لا يرى أن هناك اختلاطًا وامتزاجًا واحترامًا للحق في المواطنة المتساوية لكل المصريين، وكل ما علينا أن نحدّد أي المِصرين نريد. عن نفسي وأظنني لست وحدي فيما أريد لا أعرف غير مِصر الأجمل بتنوّع شعبها وسوّية علاقاتها وتاريخها الذي صنعه مسيحيون ومسلمون. هذه المِصر وحدها هي التي يهّب المصري فيها ليمّد يد العون لمصري آخر أو مصرية أخرى إذا ما اشتّدت حاجته/ حاجتها إلى العون، وأحيانًا ما يأتي هذا العون على شكل قطرة ماء أو ربما نقطة زيت.