السياسة الدولية بين نهاية التاريخ وصراع الحضارات! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة الدولية بين نهاية التاريخ وصراع الحضارات!

نشر فى : السبت 30 يوليه 2022 - 7:10 م | آخر تحديث : السبت 30 يوليه 2022 - 7:10 م

شرحنا فى المقالات الماضية من سلسلة «السياسية الدولية منذ القرن العشرين»، انعكاس انتهاء الحرب الباردة على العلاقات الدولية وعلى منطقة الشرق الأوسط، ولكن أحاول فى هذه المقالة شرح الكيفية التى أثرت بها العلاقات الدولية على العلوم السياسية وعلى النقاشات الأكاديمية فى مجالى التاريخ والفلسفة السياسية.
• • •
حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين، كان الجدال الرئيسى فى السياسة الدولية يقع بين أنصار المدرسة الماركسية والماركسية الجديدة المتمسكين بأفكار الحتمية التاريخية والعلاقات الديالكتيكية الاقتصادية والاجتماعية التى تفصل بين المراحل التاريخية المختلفة، وبين أنصار المدرستين الليبرالية والواقعية وهى المدارس المنحازة لأفكار الليبرالية الغربية الرأسمالية على الرغم من الخلافات الواضحة بين أنصارهما.
لكن وفى النصف الثانى من عقد الثمانينيات، وعندما بدأ بريق الاتحاد السوفيتى فى الخفوت مع وصول ميخائيل جورباتشوف للقيادة وأفكاره الإصلاحية سياسيا واقتصاديا والتى بدا فيها واضحا أنه يتخلى تدريجيا عن الأفكار اللينينية والماركسية، فإن صوتا بدأ خافتا ثم أخذ فى الظهور علانية بشكل تدريجى داخل الدوائر الأكاديمية، متحدثا عن انتصار وشيك للغرب أو على الأقل انتهاء حقبة الحرب الباردة فى السياسة الدولية.
لعل أبرز الإسهامات الأكاديمية التى أخذت تبشر بنهاية الحرب الباردة والانتقال إلى حقبة تاريخية مختلفة تسود فيها الديموقراطية الليبرالية الغربية، كان مقالا نشره فرنسيس فوكوياما بعنوان «نهاية التاريخ» قبل شهور قليلة من انهيار حائط برلين، وفى هذا المقال، تحدث فيه فوكوياما بوضوح عن التغيرات الدولية الجذرية فى عقد الثمانينيات التى تشير إلى تفوق الغرب وقيمه الرأسمالية/الليبرالية الديموقراطية، متوقعا بالاقتراب من نهاية التاريخ، أى نهاية تطور الأفكار والأيديولوجيات وصراعاتها على المستوى الدولى بالوصول إلى مرحلة سيادة القيم الغربية باعتبارها آخر مراحل التطور التاريخي!
وفى عام ١٩٩٢، طور فوكوياما من مقاله الأول، ونشر كتابه الأهم «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» عن دار نشر «فرى» الأمريكية. وفى الكتاب أكد فوكوياما أفكاره السابقة معتبرا أن النظام الديموقراطى الليبرالى الغربى هو الأفضل أخلاقيا واقتصاديا وسياسيا، مستبعدا أى صراع أيديولوجى قادم لحاجة الأيديولوجيات غير الغربية (تحديدا الإسلامية) للعمق الثقافى والحضارى وبالتالى عدم قدرتها على الإقناع خارج إطارها الثقافي!
فور صدور كتاب فوكوياما بدأ الجدل الأكاديمى يشتد حول فكرة نهاية التاريخ باعتبارها صراعا بين الأفكار والأيديولوجيات، فظهر فريقان أكاديميان، الأول مؤيد والآخر معارض! أما عن الفريق المؤيد فقد انطلق من نفس فرضية فوكوياما عن أفضلية النظام الليبرالى الديموقراطى أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا، مستعينين بنظرية شهيرة فى العلاقات الدولية تسمى نظرية «السلام الديموقراطى» وهى النظرية التى لها فرضيتان تقول الأولى بأن الدول الديموقراطية لا تتحارب مع بعضها البعض، بينما تقول الفرضية الثانية بأن الدول الديموقراطية أكثر سلاما فى علاقاتها الدولية من الدول غير الديموقراطية!
بينما رأى الفريق المعارض لأطروحة نهاية التاريخ، بأن فوكوياما متأثر بالأفكار الغربية ــ وتحديدا الأمريكية ــ اليمينية المسيحية المحافظة والمتأثرة بدورها بفكرة تفوق الرجل الأبيض! كما رأى آخرون أن فكرة التفوق الاقتصادى للنظم الديموقراطية فكرة خاطئة، فالدراسات تؤكد بشكل إمبريقى بأن نهاية الحرب الباردة قد ارتبطت بنهاية أفكار الرفاهة ومسئولية الدولة الاجتماعية تجاه مواطنيها! وأخيرا تعرضت نظرية السلام الديموقراطى لانتقادات شديدة، سواء بسبب الاختلافات الفلسفية فى تعريف الديموقراطية، أو بسبب حداثة عهد معظم دول العالم بالديموقراطية مما يجعل التعميم عديم الفائدة!
• • •
لكن أكبر وأعمق الردود على أطروحة نهاية التاريخ جاءت من أستاذ العلوم السياسية الأشهر صامويل هانتنجتون والذى رد على أفكار فوكوياما فى مقال نشره عام ١٩٩٣ بعنوان «صراع الحضارات» وطوره فى شكل كتاب نشر عام ١٩٩٦ بعنوان «صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى» عن طريق نفس دار النشر التى نشرت كتاب فوكوياما ولكن بعد أن اندمجت فى دار نشر أكبر اسمها « سيمون& شوستر».
فى مقاله وكتابه، رفض هانتنجتون فكرة نهاية التاريخ، مؤكدا أن انتصار الحضارة الغربية وقيمها ما هو إلا مرحلة تاريخية مؤقتة ستعقبها مرحلة لاحقة تعيد الصراع القديم بين الحضارات! فى كتابه، قسم هانتنجتون العالم إلى ثمانى حضارات/عوالم ثقافية كالتالى:
1ــ الحضارة الغربية وتتشكل من الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية وأستراليا ومحيطها، وهى حضارة متأثرة بالثقافة المسيحية (الكاثوليكية ــ البروتستنتية).
2ــ حضارة دول أمريكا الجنوبية والوسطى والمكسيك وهى حضارة متأثرة بالقيم الغربية أيضا المستندة إلى المسيحية الكاثوليكية.
3ــ الحضارة الأرثوذكسية والتى تشمل معظم دول شرق أوروبا والبلقان وروسيا.
4ــ المجال الثقافى الصينى، وهى حضارة الدول المتأثرة بالثقافة الصينية كالصين والكوريتين وسنغافورا وتايوان وفيتنام وأجزاء من ماليزيا، بالإضافة إلى كل الجاليات الصينية فى العالم.
5ــ الحضارة اليابانية وهى خليط من القيم اليابانية والصينية.
6ــ الدول البوذية، وهى خليط من ثقافات دول عدة مثل تايلاند وسيريلانكا وبوتان وكامبوديا ولاوس ومنغوليا وميانمار.
7ــ الحضارة الهندوسية فى مناطق الهند وبوتان ونيبال، بالإضافة إلى الجاليات الهندية فى العالم.
8ــ العالم الإسلامى وهى دول وسط آسيا وشبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء كتشاد.
9ــ وأخيرا معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء.
يرى هانتنجتون أن المناطق من رقم ٤ إلى ٧ يمكن أن تندمج تحت حضارات «العالم الشرقى»، كما أنه يرى أن بعض الدول «كإسرائيل» لها ثقافتها المنفردة، ودول أخرى قد تجمع بين أكثر من ثقافة أو تنقسم بين ثقافتين رئيسيتين كأوكرانيا ونيجيريا... إلخ.
يأتى الجزء الأهم فى تحليل هانتنجتون حينما يرى أن الحديث عن سيادة القيم الغربية هو نوع من أنواع الوهم، وأن الصراع التالى لنهاية الحرب الباردة هو صراع بين الحضارات، مركزا على الحضارات الشرقية وتحديدا المتأثرة بالثقافة الصينية، وكذلك الحضارة الإسلامية باعتبارهما أكبر عدوين محتملين للتصادم مع الحضارات الأخرى ولا سيما الحضارة الغربية!
حيث يرى هانتنجتون أن التحول الاقتصادى والصناعى فى الحضارات الشرقية ولاسيما فى الصين وكوريا وبعض دول جنوب شرق آسيا (باستثناء الفلبين)، فضلا عن الثورات الدينية أو ما أسماه بالصحوة الإسلامية وما أطلق عليه «الحدود الدموية للعالم الإسلامى»، وميل الشعوب الإسلامية إلى الإنجاب بشكل أكبر من أى منطقة أخرى فى العالم، يرشح كلتا الحضارتين لمعاداة والتصادم مع الحضارة الغربية على النفوذ العالمى، بل ولم يستبعد أن تتحد الحضارتان الشرقية (الصينية) والإسلامية معا ضد نظيراتها الغربية!
• • •
أضافت أطروحة هانتنجتون المزيد من الصخب على الجدالات الأكاديمية بخصوص مرحلة ما بعد الحرب الباردة فى العلاقات الدولية وطبيعتها، فهناك من انحاز لأطروحة صراع الحضارات ضمن رؤية أنها أطروحة أكثر واقعية من أطروحة فوكوياما المثالية عن نهاية التاريخ، وبين من رفض تلك الأطروحة متهما هانتنجتون بالتبسيط المخل لطبيعة الصراعات الدولية والتساؤل حول مدى دقة أو واقعية تقسيم العالم إلى كتل جغرافية تفترض التناغم الحضارى فى كل منهما، وسط دعوات مقابلة «للحوار بين الحضارات» تبنتها العديد من المنظمات الدولية والأوساط الثقافية والأكاديمية والتعليمية فى نهاية التسعينيات وبداية الألفية.
لكن جاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر لتعطى دفعة أكبر لأطروحة صراع الحضارات التى عادت إلى الواجهة مرة أخرى مع حروب الولايات المتحدة فى العراق وأفغانستان ضد ما سمى «الإرهاب الإسلامى»، ولهذا حديث آخر لاحق.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر