القصة طويت فى الذاكرة لا تبارحها رغم وطأة السنين التى تقادمت.
اتبع حسه الأخلاقى قبل السياسى وتجاوز حساسيات وفجوات، لا تشاور مع أحد ولا أستأذن أحدا آخر قبل أن ينضم إلى تظاهرة بدأت للتو حشدها أمام كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة التى يدرس فيها.
فى ذلك الصباح الشتوى البعيد من يناير (١٩٧٦) فوجئ «أحمد سيف الإسلام»، كما فوجئ غيره بحل «نادى الفكر الناصرى» بعد أسبوع واحد من صعود أحد قياداته إلى رئاسة اتحاد طلاب الجامعة بقرار من مجلس الاتحاد نفسه!
كان ينتمى إلى تيار يسارى آخر ينازع الناصريين قيادة الحركة الطلابية لكنه لم يتردد لحظة واحدة فى أن يعتلى سلالم كليته مؤازرا وخطيبا، فالقضية لا تخص تيار دون آخر ومسألة الديمقراطية لا مساومة عليها.
لم تكن مصادفة أن ينقل دفة حياته تاليا إلى العمل الحقوقى وردهات المحاكم دفاعا عن الحريات المنتهكة وأن يكرس وقته كله من أجل قضية رفع الضيم عمن تعرضوا للانتهاكات والتعذيب، وقد ناله قسطه من صواعقه وسياطه.
بتكوينه الإنسانى كان مرشحا لهذا العمل أكثر من أى دور سياسى آخر.
العمل الحقوقى هو عمل سياسى بوسائل قانونية وفق معايير وقواعد أكثر انضباطا.
لم يكن وحده الذى تجاوز الحساسيات والفجوات لكن أسبابه كانت أقرب أن تكون «حقوقية» .
انضمت إليه قيادات أخرى من ذات تياره أولهم «شهاب سعد» الذى وافته المنية بعد سنوات قليلة من تخرجه، وقد كان من ألمع أبناء جيله وأكثرهم دفئا إنسانيا.
هو نفسه على ذات القدر من الدفء الإنسانى والاستعداد للبحث فى الآخرين عن مساحات مشتركة.
بعد وقت قصير انضم إلى التظاهرة الاحتجاجية طالبان يساريان آخران من كلية الآداب: «سمير حسنى» مسئول الملف الأفريقى فى الجامعة العربية الآن و«رضوان الكاشف» الذى تألق مخرجا سينمائيا مبدعا قبل أن يرحل سريعا.
سألت «سمير حسنى» وقد كان حضوره مباغتا: «هل جئت لتهاجمنا كعادتك أم لتتضامن معنا؟» أجاب: «أنا معكم».
الكلمتان ذاتهما قالهما «سيف» دون أن يسأله أحد أو أن يبدو الأمر داعيا للتساؤل.
أما «رضوان الكاشف» فقد كان مفاجأة كاملة. كان حادا فى مساجلاته السياسية مع الناصريين و«كمال أبو عيطة» وزير القوى العاملة فيما بعد على الجانب الآخر يبادله ذات الحدة التى كانت تعبيرا فى الحالتين عن فرط مثالية بأكثر من أى شيء آخر.
كانت روح «رضوان» الإنسانية آثرة كما قدر لى فيما بعد أن اكتشف. سألته مازحا ذات مرة: «قل لى ما الذى جرى لكم.. وكيف أصبح دمكم خفيفا بعدما كنتم لا تطاقون؟»، أجاب بسرعة بديهة: «وهل تظن أن دمكم كان خفيفا، ألا ترى أنكم كنتم لا تطاقون؟». الحقيقة أن الجسور كانت شبه معطلة بين تيارين يساريين من ذات الجيل، وباستثناء أسماء قليلة للغاية «سيف» من ضمنها فإنه لا شيئا إنسانيا مر من فوق تلك الجسور.
من مفارقات ذلك اليوم البعيد أن «حمدين صباحى» رئيس اتحاد الجامعة الذى صعد لموقعه للتو خضع لمساءلة علنية من الطلاب المحتجين، رغم أن قرار الحل ينال تياره الناصرى ومنه شخصيا وأن «سيف» كان فى موضع من يُساءل: «كيف صدر هذا القرار.. وكيف يصحح؟».
ساعدت مبادرته التلقائية بالانضمام إلى تظاهرة تخص تيارا آخر فى التوصل إلى نتيجتين محوريتين فى ذلك الوقت أولاهما تأكيد شرعية «التعددية السياسية» بإقرار حق إنشاء نواد فكرية مماثلة للتيارات السياسية الأخرى. هكذا تأسس «نادى الفكر الاشتراكى» بعد أسبوع واحد من عودة «نادى الفكر الناصري» بقرارين متتاليين من مجلس اتحاد طلاب الجامعة الذى فوجئت أكثريته الغائبة بما هندس أمنيا وكان فى مقدمة المتصدين رئيس اتحاد الصيدلة «مجدى أحمد على» المخرج السينمائى الشهير فيما بعد.
وثانيتهما تهيئة المناخ العام لتفاهمات أوسع بين أكبر تيارين سياسيين فى الجامعات المصرية لخصت نفسها فيما عرف باسم «وثيقة نوفمبر التقدمية» التى استبقت مباشرة انتفاضة يناير (١٩٧٧).
لم يكن «سيف» لاعبا رئيسيا فى المشهد السياسى الجديد وما بعده لكنه بوقفته التضامنية مهد المجال لإزاحة حساسيات استقرت لسنوات طويلة.
كان من أكثر مجايليه دماثة خلق على ما عرفته عن قرب فى تجاربه الأولى مع السياسة والحياة مستعدا طوال الوقت أن يغلب ما هو «عقلانى» فى مساجلاته السياسية.
شارك فى تظاهرات (١٩٧٣) التى استبقت حرب أكتوبر ودخل المعتقلات مرة بعد أخرى وتملكته شخصية «الحقوقى» قبل أن يلج هذا المجال.
دخل الجامعة ليدرس العلوم السياسية لكنه انتقل بعد تجربة المعتقل إلى دراسة الحقوق والعمل محاميا متطوعا عن المظلومين ماضيا على خطى «نبيل الهلالى» الذى يعتبره محبوه وتلاميذه قديسا.
شارك فى الحركات الطلابية السبعينية وشاهد بعينه تراجيديات جيله، تأثر بصوت «أحمد عبدالله رذة» وهو يجلجل فى قاعة المؤتمرات الكبرى بجامعة القاهرة داعيا إلى تعبئة الموارد العامة لاستعادة الأراضى المحتلة بقوة السلاح وتابع ما تعرض له من تهميش وإقصاء أفضى إلى شيء من العزلة حتى مات كمدا دون أن يحصل على شيء مما يستحق.
تابع مصير مأساوى آخر لحق بـ«سهام صبري» طالبة الهندسة التى قادت باقتدار استثنائى اعتصام (١٩٧٣) فى قاعة المؤتمرات الكبرى، انزوت لسنوات محبطة ويائسة قبل أن تغادر الحياة فى حادث سير.
وكان مصير «أروى صالح» زعيمة كلية الآداب أكثر مأساوية فقد انتحرت من حالق تحت شعور قاس بخذلان من وضعت ثقتها فيهم.
فى تراجيديات السبعينيات قصص صعود وسقوط وتجارب إنسانية وسياسية بعضها تابعت دورها لأربعة عقود متصلة وتحملت مسئوليتها فى حفظ الحياة السياسية من أن تجرف كاملة مثل «أحمد بهاء الدين شعبان» و«كمال خليل» وبعضها انكسر وخذل بداياته.
حمل قضيته بعيدا عن الأضواء تقريبا وحاز محبة المظلومين، أخلص لأحلامه القديمة ولحق به أبناؤه إلى ميادينها وتأثرا به تابعوه إلى سجونه القديمة.
تجلت على سرير الموت فى غرفة إنعاش تراجيديته المختلفة فلم يكن بجواره وهو يصارع الموت اثنان من أبنائه.
كانا فى السجن.
أوجع قلبه العليل أن ابنته الصغرى «سناء» التى لم تبلغ العشرين من عمرها وضعت فى سجن طالت إقامتها فيه بلا مبرر قانونى أو إنساني، دخلته بتهمة المشاركة فى تظاهرة تطالب بالإفراج عن شقيقها الأكبر «علاء» السجين على ذمة قضية أطلق سراح كل المتهمين فيها باستثنائه هو واثنين آخرين من زملائه.. وبينهما الوسطى «منى» على قائمة الانتظار.
ملف قانون التظاهر يحتاج لمراجعة جدية لأجل بلد من حقه أن يتطلع إلى إنهاء الفجوة بين الدولة وشبابها ونقطة البدء التى تأخرت كثيرا إعادة النظر فى نصوصه المجحفة وفق ملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان والإفراج الفورى عن الموقوفين والمتهمين بموجبه.
هذا ضرورى لإفساح الأمل فى المستقبل لأن يتحرك وأن تشعر روحه أن حياته لم يذهب معناها هدرا.