أن يعترف ومن ثم يعتذر شخص لشخص آخر بسبب ارتكابه لجريمة أو أذى بحقه، وأن يقبل الأخير الاعتذار ويمارس فضيلة المسامحة والعفو تجاه من تسبب فى إيذائه، فهذا أمر فردى محمود يتمُ بإرادة المعتدى والمعتدى عليه بحرية وبتفهُم ندى متبادل من قبل الاثنين.
هذا شىء، واعتراف ومن ثمُ اعتذار شخص تسبب فى إيذاء الملايين من البشر وجرح وقتل مئات الألوف منهم، هو شىء آخر. إذ لن توجد جهة أو جماعة مخولة قادرة على التحدُث باسم كل الضحايا، وبالتالى قبول أو رفض الاعتذار.
من خلال هذا الفرق الهائل بين حالتى الاعتراف والاعتذار السابقتين يجب الحكم على الاعتراف الجزئى العبثى المقتضب المتلاعب بالكلمات لرئيس وزراء بريطانيا السابق بشأن دوره الشخصى الإجرامى الانتهازى، وبالتالى دور حكومته وجهاز استخباراته ووسائل إعلامه، فى إدخال شعب وجيش ومجتمع العراق فى الجحيم الذى يعيشونه منذ عدة سنوات والذى سيعيشونه لعقود طويلة قادمة.
تونى بلير مارس الكذب على نفسه وشعبه طيلة الاثنى عشر سنة الماضية عندما رفض المرة تلو الأخرى، فى مجلس العموم البريطانى وفوق كل ساحة إعلامية ظهر فيها، رفض الاعتراف بأنه وحكومته وأجهزة استخباراته قد أجرموا بحق الشعب العراقى وأمة العرب عندما ساهموا فى حملات الكذب الإعلامية بشأن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وعندما وعدوا الأمريكيين سرا، ومن وراء ظهر مجلس العموم والرأى العام البريطانى، باستعدادهم للمشاركة الكاملة فى عدوانهم الهمجى لاجتياح العراق، وتمزيقه إربا، وتدمير كل مقومات الحياة فى ربوعه، وتهيئته لحروب طائفية وعرقية تؤدُى إلى تجزأته وإخراجه من التاريخ والجغرافيا والحضارة.
بدلا من الاعتراف، تباهى طيلة تلك السنوات بقيامه هو وصديقه الجاهل الأحمق جورج بوش الابن بقيامهما بدورى مخلصى الشعب العراقى من استبداد طاغية من جهة وبنقل العراق إلى نظام ديمقراطى تعدُدى من جهة أخرى.
•••
بعيدا عن تفاصيل أخطاء وخطايا وآثام وكذب وانتهازية الاثنين وحكومتيهما واستخباراتهما المتآمرة اللا أخلاقية، فقد فصُلت فى كتب وتقارير كثيرة منشورة ومذاعة، دعنا نعلق على «اعتراف» تونى بلير من زوايا عربية وبمعايير عربية قومية.
أولا: هذا اعتراف مبهم بارتكاب أخطاء مبهمة، واعتذار لنفسه ولشعبه لارتكاب تلك الأخطاء. ويقول بعض المحللين الانجليز بان اعترافه بارتكاب أخطاء فى تقدير الموقف على ضوء المعلومات الخاطئة التى أعطيت له آنذاك، قد قصد منه حماية نفسه من وجهة قانونية، وذلك قبل أن يصدر التقرير الرسمى للجنة كونت منذ ست سنوات لتنظر فى ملابسات تورُط بريطانيا فى غزو العراق، والتى قد تعتبر أن ما قام به تونى بلير بالتنسيق مع جورج بوش كان تآمرا تلفيقيا معدا له قبل اجتياح العراق بسنة على الأقل، والواقع أن الاعتذار لم يتوجُه مباشرة إلى ملايين الضحايا من شعب العراق بالاسم وبدون مواربة ولا التفاف حول الموضوع وعليه فإن شعب العراق غير معنُى ولا ملزم بقبول هذا الاعتذار الغامض المراوغ.
ثانيا: إن العرب، وعلى الأخص عرب العراق، يجب أن يوكلوا إلى الجامعة العربية البدء فى الحال النظر فى إمكانية رفع الأمر إلى المحاكم الدولية، باعتبار أن كل المعطيات تشير إلى ارتكاب تونى بلير وجورج بوش لسلسلة من الجرائم الإنسانية التى تحرمها القوانين الدولية وتعاقب مرتكبيها، وباعتبار أن الرجلين يكذبان عندما يحاولان حصر الأمر فى سوء فهم وأخطاء فى التقدير. إن دم الألوف وعاهات مئات الألوف ودموع الملايين من العراقيين تصرخ مطالبة بالعدالة.
ثالثا: إن بعض الأنظمة العربية التى وجهت فى الماضى الدعوات لتونى بلير لإلقاء المحاضرات ودفعت له مكافآت مالية خيالية، أو التى عينته مستشارا فى حقلى الاقتصاد والعلاقات العامة، أو التى تفكر فى تعيينه مستشارا فى المستقبل، أو التى قبلت أن يكون عضوا فى الرباعية الدولية المناط بها متابعة الموضوع الفلسطينى، يجب أن توقف التعامل مع هذا الرجل الذى من فمه ندينه، وأن تقرر أن لن يكون له ولا لجورج بوش ولا لديك تشينى ولا لرمسفيلد ولا لأمثالهم من الذين يقطر من أياديهم دم الضحايا العراقيين أى مكان فى وطن وحياة العرب فى المستقبل.
رابعا: إن تاريخ تعامل بريطانيا مع أمة العرب تاريخ أسود. لقد وعدت العرب بالاستقلال إن وقفوا مع الغرب ضدُ الخلافة العثمانية ثم نكثت وعودها. بل إنها دخلت شريكة مع فرنسا فى توقيع معاهدة سايس – بيكو التى جزأت شرق وطن العرب ووأدت حلمهم القومى الوحدوى.
وبعدها أضافت جريمة إصدار وعد بلفور الذى جاء بجحافل الصهيونية إلى أرض فلسطين العربية وشرد أهلها. وها هو رئيس وزرائها السابق يعترف بارتكاب بلاده جريمة غزو وتدمير العراق، وقتل وتهجير شعبه.
والسؤال: إلى متى سينسى العرب تلك الجرائم ويتعاملوا مع الدولة التى ارتكبتها بمنطق الردُ المعاقب العادل للأذى الذى ينخر فى جسد هذه الأمة حتى يومنا هذا؟
مناسبة اعترافات بلير يجب أن لا تمرُ كحدث فردى عادى. إنها مناسبة لفتح الملفُات التى يغطيها الغبار وتأكلها حشرات الهوان على النفس العربية.