الصالة تغص بالمدعوين وتختنق بالصوت. نظرة واحدة فى لحظة واحدة كانت كافية لإقناعى بأننى أخطأت عندما قبلت الدعوة. أخطأت مرة ثانية عندما ترددت عند باب الصالة فلم أنسحب بعد النظرة الأولى. رأيت فى الصالة بنظرة طائر عددا كبيرا من الناس لا أعرف أحدا فيهم إلا من دعانى. رأيته قادما من وسط القاعة يلوح بيده وعلى وجهه سمات ترحيب أكيد. ربما لو تأخر قليلا فى الظهور لحسمت التردد وانسحبت فى هدوء. أكون أكثر دقة لو وصفت الانسحاب المتوقع بكلمة أخرى غير الهدوء فالصخب شديد وبالفعل خانق. تذكرت صخبا مماثلا عندما دخلت وأنا صغير مع رحلة مدرسية مصنعا للحديد والصلب فأمرنا المعلم المشرف على الرحلة بسد آذاننا أثناء زيارة قاعة الصهر والتشكيل، لم ينسَ فى الوقت نفسه التشديد على الإنصات جيدا إلى الشرح الذى سوف يقدمه لنا المهندس المسئول عن الشغل الدائر فى القاعة. لم نسمع الشرح، وبقدرة قادر وبدون معلومات من المصدر كتبت فى اليوم التالى موضوع الإنشاء عن زيارتنا للمصنع.
***
أفهم أن الآلات الضخمة كانت تصدر فى ذلك الزمن أصواتا خشنة، وأفهم أن لقمة العيش كانت رادعا كافيا لمنع العمال من الانسحاب من قاعة الشغل بحجة الصوت العالى الذى تصدره الماكينات التى يشغلونها. ما لم أفهمه خلال تلك اللحظة التى قضيتها على باب الحفل فى انتظار وصول صاحب الدعوة من وسط القاعة هو أن أصواتا بهذا العنف ما زالت تصدر بينما العالم توصل إلى اختراع يضمن حتى لعمال الحديد والصلب الاستماع إلى موسيقى هادئة جدا أثناء تأدية وظيفتهم. أما كان يمكن لمضيفى، وهو كريم وقادر، أن يزود ضيوفه عند باب القاعة بسماعات تبث أنغاما هادئة وناعمة بل كان يستطيع، وهو القوى وصاحب نفوذ، رفض تأجير قاعة مزودة بأدوات تثير هذه العاصفة الصوتية المؤذية.
***
ما زلت واقفا عند الباب ألوم نفسى على أننى لم أنسحب مبكرا قبل أن يلمحنى المضيف فيلوح لى ويتحرك فى اتجاهى. رأيته يتوقف حينا لمصافحة ضيف ينهض من مقعده ليحييه فيسد طريقه المتعرج بين الموائد أو ينحنى حينا آخر لتقبيل وجنتى ضيفة أعربت بما يشبه الاشارة عن استعدادها أن تنهض من أجل مبادلته المجاملة الواجبة. عدت لنفسى أعاتبها على ظنونى التى راحت تبحث عن أوجه شبه بين هؤلاء الضيوف المتراصين حول عشرات الموائد والعمال الذين رأيتهم وأنا صغير متراصين حول ماكينات الصلب. تذكرت أننى فى كراسة الإنشاء التى سلمتها لمعلم اللغة العربية كتبت عن الأهداف الوطنية التى يشارك هؤلاء العمال فى تحقيقها بتحملهم مشاق العمل تحت ضغط أصوات رهيبة، ولكنى كتبت أيضا عن لقمة العيش التى يشقون من أجل الحصول عليها فتحملهم على تحمل صراخ الآلات. استمرت الظنون تشاكس خيالى فأتساءل عن احتمال أن يكون هؤلاء الضيوف قد وافقوا على حضور حفل تصدر فيه أو عنه هذه الضجة القاتلة لا لشىء إلا حاجتهم إلى لقمة عيش. لا شىء يجعلهم يتحملون هذا الألم الذى كان قد بدأ بالفعل يسرى فى رأسى وبخاصة بين الأذنين إلا أمل فى لقمة هنية مستوردة أو من يد طباخ سويسرى أوتى به خصيصا من أجل إطعامهم.
***
تأخر صاحب الحفل فى الوصول ولم أتململ. خشيت أن يصل فيكتشف أننى أمر بمزاج غير مناسب فيسألنى فأتهرب من الإجابة وأنا غير البارع فى هذا الفن. قررت، كما هى عادتى عند الضيق أو «الزنقة»، أن أغرق عقلى فى ذكريات عن أمى فينفرج الضيق وتظهر مخارج للزنقة. تذكرت خصومتها مع أكلات المطاعم والفنادق واتهامها للطباخين العاملين فيها بالإفراط فى استخدام التوابل الزاعقة والحارة لإخفاء مساوئ ما يطهون. بالنسبة لها كانت الكفتة «الحارة» محل شك دائم فتكون فى أصلها من لحم تجاوز حدود صلاحيته أو من كبابجى تنقصه المهارة والأخلاق النبيلة. رحت أسال النفس بدون النطق بكلمة أو التعبير بتأوه أو بآهة عما إذا كانت هذه الموسيقى الصاخبة تؤدى الوظيفة التى كانت أمى تظن أن الشطة والفلفل الحار يؤديانها، بمعنى أنها تغطى مثلا وفى أحسن الفروض على ما يقدمه المسئولون عن تنظيم هذه المناسبات فى هذا الفندق أو غيره من الفنادق الفاخرة للغاية من طعام بلا طعم وشراب لا ينعش وأصوات لا تطرب. المهم، فيما يبدو، أن لا يعلو طعم أو ذوق أو استحسان فوق صوت الصخب والعنف الصوتى.
***
لا أبالغ ولا أظلم أحدا وأنا أوجه الاتهام صريحا بأن جهة ما فى هذه المناسبات لها مصلحة فى ألا يعلو صوت فوق صوت الصخب الذى يطلقون عليه جورا وكذبا اسم الموسيقى. أذكر أنه فى آخر حفل حضرته قبل عام أو أكثر أجلسونى على مائدة بين سيدة من ناحية ورجل من ناحية أخرى كلاهما متقدم فى العمر وكلاهما حريص على أن يحتكر إنصاتى وأن ينافس صوت الفوضى السمعية المسماة بالموسيقى. فشلا. لم يفلح أى منهما فى كسب انتباهى وإنصاتى. لم أندم. فهمت من الكلمات المتقاطعة التى استطعت التقاطها من فم جارى أنه حضر قبل عشرين عاما اجتماعا كنت أتحدث فيه ولم يستحسن أى رأى من آرائى. وفهمت من كلمات جمعت حروفها التقاطا من شفاة جارتى أنها غاضبة من اعترافى أننى لم أزر الجونة رغم كثرة رحلاتى وجمال المنتجع. هدأ غضبها عندما تعهدت بقبول دعوتها لى مع آخرين ضمنت لى أنهم سوف يسعدون بصحبتى. أعتقد أن هذا هو كل، وأؤكد على كل، ما فهمت وجمعت من الأحاديث التى دارت بين ثلاثتنا على امتداد ثلاث ساعات وغطت عليها ضجة الميكروفونات. أمامى على المائدة جلس شاب وفتاة تكشف نظراتهما عن عواطف متبادلة تبحث عن وسيلة للتعبير عنها. تصورت أن استئذانهما للخروج من القاعة بمعدل مرة كل عشرين دقيقة إنما هو لهذا الغرض بعد أن منعت «الموسيقى العنيفة» الكلمات من أن تصل مسموعة إلى مبتغاها وتركتها للشفاة تعبر عنها فى صمت وخشوع. بأى حق يطلقون على هذه الأصوات اسم الموسيقى بعد أن فشلت فى أن تكون وسادة ترتاح عليها أو ترقص عواطف المحبين.
***
أفقت من ذكرياتى وتخيلاتى لأجد نفسى فى أحضان صاحب الدعوة. بعد قليل كانت يدى محبوسة فى يده وكلانا نسير فى اتجاه مائدة عند طرف فى القاعة. لم أسمع كلمة واحدة من كل ما قاله ونحن على الطريق إلى المائدة. وصلنا وتفضل الداعى الكريم بتعريفى بكلمات منطوقة ولكن غير مسموعة إلى جيرانى. جار على يمينى متقدم فى العمر وجارة إلى يسارى أقل تقدما فيه، وعلى المائدة معنا وفى مكان غير بعيد عنى جلست إحدى مساعداتى قبل سنوات وخطيبها إلى جانبها وفى عينيها فرحة من وجد الخلاص.
أخطأت زميلتى التقدير فلا صوت خلال السهرة سوف يعلو فوق صوت «الموسيقى» ليصل إليها، حتى صوتى أو أصوات غيرى من ملائكة الخلاص.