ما هى إلا أيام قليلة وتبدأ حلقة جديدة فى حلقات أحدث مسلسل للفن الواقعى، المسلسل الذى اختار دونالد ترامب أن يلعب فيه دور البطولة. تبدأ الحلقة الجديدة بانتقال العائلة من أبراج ترامب وقصوره إلى البيت الأبيض لتتولى من هناك إدارة أحدث مشروعاتها العقارية، مشروع بحجم الولايات المتحدة وباتساع الكوكب. لا مبالغة فى هذا الوصف لطبيعة المرحلة الجديدة فى التاريخ الدبلوماسى الأمريكى بالنظر إلى القلق الواضح الذى أصبح يهيمن فى عواصم عديدة، وإلى المناقشات الصريحة الدائرة حاليا فى الدوائر الدبلوماسية وأجهزة صنع السياسة الخارجية، والسعى فى داخل هذه الدوائر والأجهزة لاكتساب مهارات التعامل مع أسلوب الصفقات فى إدارة العلاقات بين الدول وتجاهل الجوانب الأخلاقية والأيديولوجية.
***
حدثان لفتا نظر محللين وبعض الحيارى من المعلقين المتخصصين فى السياسات الخارجية للدول. لفت نظرهم السرعة الفائقة التى جاء بها رد فعل أعلى أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية على فوز دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية. قيل فى تحليل وتبرير هذه السرعة فى صدور رد الفعل المصرى وبهذه الدرجة من الثقة فى النفس وفى القرار وفى سرعة اتخاذه إن الأجهزة المصرية لابد أنها توصلت فى روسيا لمعلومات مؤكدة عن الاتجاهات الحقيقية للرئيس الجديد، وهى معلومات بلا شك مختلفة عن اتجاهات كثيرة فى الخطاب الانتخابى. قيل أيضا فى تحليلات أخرى ليست بعيدة عن هذا التحليل أن هذه الأجهزة المصرية ربما تكون قد حصلت على تطمينات، وليس فقط معلومات من الأجهزة العليا الروسية، باعتبار ما تسرب وتأكد عن تدخل متشعب من الجانب الروسى فى الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية واختراق للجماعة المحيطة بالمرشح الجمهورى. قيل كذلك، ولماذا نستبعد أن تكون زيارة الرئيس المصرى للمرشح الأمريكى والحوار الذى لا بد أنه جرى بينهما خلال المقابلة هما، وحدهما وبدون تأثير من موسكو، هما المصدر الوحيد لاقتناع الرئيس المصرى بما يمثله وينوى تنفيذه المرشح الأمريكى. المهم فى هذه الاجتهادات وغيرها هو الفضول الشديد فى الدوائر الإعلامية والدبلوماسية لمعرفة مصادر فهم الرئيس المصرى لبرنامج وخطط المرشح الأمريكى ودوافع اقتناعه بأنها تخدم المصالح المصرية. هذا الاقتناع الذى دفعه ليكون الأول بين الملوك والرؤساء المهنئين.
***
جاءت المفاجأة الثانية من اليابان. لم تمض ساعات على إعلان الفوز والتهنئة المصرية بهذا الفوز إلا وكانت طوكيو تعلن أن رئيس وزرائها استقل بالفعل طائرة متوجها إلى الولايات المتحدة ليلتقى الرئيس المنتخب. لم يذهب ليهنئ ولكن ذهب ليفهم حتى يطمئن أو ليعد عدته لنمط جديد من علاقات التحالف بين البلدين. تراءى لمعلقين ومحللين مخضرمين أن المسئول اليابانى ما كان ليغادر طوكيو ويطلب اجتماعا عاجلا مع شخص بالكاد ظهرت نتائج ترجح فوزه إلا لو أن لديه ولدى اليابان ما يسبب قلقهما، وأنهما لم يتعرفا بالدقة الواجبة على نواياه وبخاصة تجاه قضية التحالفات العسكرية ومسألة إحتواء الصين وموضوعات التجارة الدولية والحماية الجمركية. أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه الاجتهادات فى هذه المرحلة المبكرة فى عملية انتقال السلطة فى عاصمة بأهمية واشنطن هو أن الفرق بين الحدثين، مفاجأة التهنئة المبكرة للغاية من الرئيس المصرى ومفاجأة رحلة الزعيم اليابانى إلى أمريكا للاجتماع بالرئيس المنتخب هو الفرق بين حجم ونوع القضايا ذات الأولوية فى علاقة كل من الدولتين بالولايات المتحدة من وجهة نظر حكومتيهما ونوايا دونالد ترامب تجاههما.
كان ترامب، على امتداد حملته الانتخابية، واضحا فى نيته عدم التدخل فى شئون وأساليب الحكم فى الدول الأخرى. أعلن أنه لن يستمر على نهج الرؤساء من بوش الابن حتى باراك أوباما الذين فرضوا درجة أو أخرى من الالتزام بأخلاقيات تحترم القواعد الدستورية والقانون وتداول السلطة سلميا والمشاركة فى الحكم وممارسة الحريات وتمكين الأقليات والنساء. لا جدال فى أن هذا النهج ظل مصدر إزعاج لكثيرين من حكام العالم النامى، وكذلك حكام شرق أوروبا والصين، وروسيا وجماعة الحكم العسكرى فى تايلاند وميانمار. لذلك كانت إشارة السيد ترامب أنه لن يهتم بهذه الأمور مصدر سعادة لهؤلاء الحكام وربما كانت السبب وراء إسراع رئيس مصر بالتهنئة والفرحة، التى عمت أوساط أجهزة الحكم ودوائر قريبة من الطبقة الحاكمة المصرية. لا يخالجنى أدنى شك فى أن الرئيس ترامب، القادم لتوه من أسواق العقارات والمنشغل حتى قمة شعره بعقد الصفقات، سوف يطالب هؤلاء الحكام فى أول فرصة تسنح له بتسديد نصيبهم فى هذه الصفقة، أى مساعدته فى تحقيق هدف استعادة «عظمة أمريكا»، حسب تعبيره.
على الناحية الأخرى كانت معظم تصريحات السيد ترامب عن مسئوليات أمريكا فى تحقيق الأمن فى عديد الأقاليم وعن تكاليف الدفاع عن الدول الحليفة وعن هجرة الاستثمارت الأمريكية إلى الخارج وعن مستقبل علاقات بلاده بالدول والشركات المصدرة والمنتجة للطاقة، هذه وغيرها من التصريحات الملتهبة تسببت فى نشر القلق وعدم التأكد فى دول عديدة. القلق يجتاح أوروبا وبخاصة الدول الواقعة إلى الغرب من ألمانيا بما فيها المملكة المتحدة، وهى نفسها متمردة على أوروبا. يجتاح أيضا دولا فى جنوب شرقى آسيا ويضعها جميعا أمام خيارين لا ثالث لهما. الخيار الأول هو الارتماء فى أحضان الصين الآن أفضل من الانتظار للخضوع إجبارا فى المستقبل. أما الخيار الثانى فهو الدخول مع الصين فى سباق تسلح رغم تكلفته الباهظة. نعرف أن الخيار الأول لم يعدم دوتيرتى رئيس الفلبين زبونا لم يسمح للفرصة أن تضيع فارتمى فى أحضان الصين واشتبك على الفور مع أمريكا حليف المائة وخمسين عاما الماضية. نعرف كذلك أن للخيار الثانى زبائن ليس أقلهم شأنا ونفوذا اليابان والهند واستراليا. الجميع على كل حال، فى آسيا كما فى غيرها، لن يتأخر عن دفع «الجزية» من خلال صفقات دفاعية وتجارية مناسبة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
***
لا أتوقع أن تكون سهلة مسيرة التغيير فى السياسة الخارجية الأمريكية على وقع أقدام ترامب الثقيلة وتقلباته المزاجية ومواقفه المتمردة على الطبقة الحاكمة. تزداد توقعاتى بصعوبة المسيرة مع كل توتر جديد يصيب العلاقات بين أطراف حلف الأطلسى وهى أصلاً متوترة، ومع كل انحدار جديد تتدنى إليه المكانة الأمريكية وهى أصلاً متدنية، ومع كل درجة تصعدها روسيا على سلم «الامبراطورية» والتوسع، ومع كل فوز جديد تحققه الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة فى أوروبا، ومع كل زعيم فى أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية تحلو له إقامة نظام شعبوى على أطلال أو هياكل ديمقراطية، ومع كل انفراط جديد أو تآكل يصيب النظام العربى الشرق أوسطى، ومع كل دعم جديد تحصل عليه تنظيمات الإرهاب العربى والإسلامى، وأخيرا وليس آخرا، مع كل خطوة تبتعد فيها سياسات دول الشرق الأوسط عن مبادئ ثورات الربيع العربى وشعاراتها.
***
سمعت من متابعى مسلسلات تليفزيون الواقع ونقاد الشاشة الصغيرة أن أكثر مشاهديها لا ينتمون إلى مستويات ثقافية أو أخلاقية طيبة، وأنهم، مثل ترامب نفسه، يكثرون من استخدام العبارات السوقية والخارجة عن آداب اللياقة والمؤذية للصحة النفسية للآطفال. سمعت أيضا عن أن مدمنى تليفزيون الواقع انتهوا مدمنين للكذب. أنا شخصيا لا أنكر انبهارى بقدرة الرئيس المنتخب على الكذب كما كشفت عنها الحملة الانتخابية. والآن وقد استعد لدخول البيت الأبيض رئيسا للولايات المتحدة لا أنكر قلقى على مصير مرحلة فى العلاقات الدولية كانت لها إيجابياتها.