حينما تتشابه الأيام إلى حد التماهى المخيف، تغدو كل صباح لتعيد بالتمام ما فعلته فى يومك السابق. صوت المنبه يأتيك من مكان بعيد لكنه مألوف، عادة لا تلاحظه لأنك فى الغالب قد استيقظت قبل لحظات من انطلاقه مؤذنا بنسخة جديدة من أيامك الرتيبة العادية. تنظر إلى ساعة هاتفك المحمول لا لتعرف الساعة بل لتعرف فى أى يوم أنت! يظن أينشتاين فى معادلته الأشهر أن الكتلة فى مربع سرعة الضوء تساوى الطاقة، أى هى انعكاس للطاقة المحض يمكن لأى منهما أن يحل محل الآخر. لا أعرف كيف يتحول الإنسان إلى كتلة تسير فى معترك الحياة بمربع سرعة الضوء، ثم ما هى العوامل التى يمكن أن تجعل تلك الكتلة طاقة صرف تشع أملا على من حولها أو تستحيل طاقة سلبية مدمرة لكل ما هو جميل، تماما كما تفعل القنبلة الذرية. ثم تدرك أنك لو تمكنت من العثور على آلة عجيبة تعبر بالكتلة إلى عالم الطاقة فإنه يكفيك أن تضع بها مشبك ورق معدنيا صغيرا لتصنع قنبلة أكثر فتكا بالبشرية من تلك التى ألقيت على هيروشيما فى الحرب العالمية الثانية!... فهل امتلك تلك الآلة العجيبة ذلك الذى عنده علم من الكتاب عندما أتى بعرش ملكة سبأ إلى نبى الله سليمان؟! أتراه استطاع أن يحوّل كتلة هذا العرش العظيم إلى طاقة، ثم انتقل بها بسرعة الضوء من قصر الملكة، وأعادها سيرتها الأولى بمجرد استقرارها أمام ناظرى سليمان بعدما ارتد إليه طرفه؟!
***
انتظام الإنسان فى مداره المقدّر من فوق سبع سماوات هو فضل من الله لا يعلمه إلا قليل، لكنه كان زهوقا ملولا، فلا صبر له على الانتظام فى أى مدار، ولا صبر له على طعام واحد وإن كان طعام أهل الجنة! ولا صبر له على الرزق يستبطئه، والمرض يستهلكه، والابتلاء يستكثره... أحسب أنه قد أصابته عدوى الحركة منذ أن هبط على الأرض، هو دائما فى حالة «فرك» فقد خلق من عجَل. ففى الجنة يقول أهل النعيم «هذا الذى رزقنا من قبل، واتوا به متشابها» كان ذلك من فضل الله عليهم، قالوها امتنانا لا ضجرا أو بطرا. ومن البديهى ألا يأتيهم طعام أشهى من سابقه، ذلك لأنهم لو حرموا الأفضل أو أتى إليهم مؤجلا، لكان ذلك مخالفا لهيئة التنعّم المطلق السرمدى...
لا يفقه الإنسان كيف يكون الأبد، ما معنى أن تحيا فى جنة بلا موت أو عذاب بلا نهاية، كما قلت لك عزيزى القارئ فقط أصابته عدوى الحركة والخضوع إلى الزمن. أنت تؤمن بالخلود فقط لكنك لا تفهمه. حتى أينشتاين لم يقتنع أبدا بالثقوب السوداء، لم يقبل فكرة أن تتكثّف الكتلة إلى الحد الذى يجعل جاذبيتها مبتلعة لأى شىء يمر بجوارها حتى الضوء! يتوقف الزمن فى ذلك الثقب الأسود الطارق النابض فى السماء بلا سكون، يتوقف الزمن ولا يبقى سوى المكان المطلق! ذلك إذن من تجليات فكرة الخلود، تراها ساطعة فى الآفاق مزهرة بالآيات، ينظر فى آيات الله من لم يؤمن بها، ينقلها إليك فتقول: «هذا الذى وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله» ولو نقلها إليك من كان على علم بالكتاب، لاشتبه فى تأثره بما عرف من الحق، لكنها المعجزات تنهال فوق رءوسنا كأمطار الشتاء ولا نتعلم منها إلا قليلا، تماما كما لم ندخّر من فيوض الشتاء إلا القليل، وغرقت بها بعض شوارعنا، فتعثرنا وسخطنا فى موضع الشكر والابتهال.
***
آمن العالم الفيزيائى الكبير «ستيفن هوكينج» بوجود الثقوب السوداء فى الفضاء السحيق، آمن بها دون أن يراها، جعلها المدخل الأهم إلى نسبية أينشتاين. لم يكن ألبرت أينشتاين يخجل من الاعتراف بالخطأ، كان عالما بحق، يعرف أن ما انغلق على الناس من أمور العلم أكبر بكثير مما فتحت أبوابه. عرف عنه مقولة شهيرة أقر خلالها بأن نظرته الساكنة إلى الكون كانت «أكبر أخطائه»، كان ذلك فى عام 1929 عندما رصد التليسكوب العملاق «هابل» ما أفاد بأن الكون فى حالة حركة وتوسّع، يقول الخالق: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ». النظرة إلى سكون الكون ترجع إلى أرسطو، لكن «أينشتاين» حافظ عليها فى معادلاته التى أسست لميكانيكا الكم، والتى لم يتعلّم منها قبول فكرة العشوائية رغم إسهامه العظيم فى تطورها، كان يقول: «إن الله لا يلعب النرد». عشوائية الكون منضبطة تتيح للجسيمات أن تتحرك بلا محددات، لكن ملايين الجسيمات لا تتحرك إلا وفقا لخطة كبرى محكمة تقوم على نظرية الاحتمالات، تماما كما أفسح الله للبشر حرية الاختيار والتصرف، وجعل لكل فعل يصدر عن الفرد عددا غير محدود من الاحتمالات المحكمة فى كتاب يوم خلق الله السماوات والأرض، يقول تعالى فى كتابه الكريم: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره». تظل جدلية الجبر والاختيار جاثمة يتنازعها أهل علم الكلام، حتى نرى الآيات فى الآفاق وفى أنفسنا، فتنكشف العبر وتتضح الصور.
«هوكينج» أيضا كان مثل أستاذه الأكبر يقر بالخطأ، ويبرز الزلّات فى أعماله كى يصححها. يقال إنه كما آمن بالثقب الأسود ولم يره، آمن بوجود خالق للكون فى أيامه الأخيرة. كان أستاذى الدكتور جودة عبدالخالق هو أول من عرّفنى على «هوكينج». كنت طالبا فى تمهيدى الدكتوراه فى فلسفة علم الاقتصاد وتحوّلت المحاضرة فجأة من الاقتصاد الكمّى إلى فيزياء «هوكينج» الذى ارتكز السؤال الأهم فى اختبار المادة على فكرة من كتابه «الكون فى قشرة جوز» (تلك هى الترجمة المنشورة على أية حال، والمصطلح يقصد به الكون باختصار شديد). تأثر أستاذى بفكر «هوكينج»، ودار الطلاب فى فلك تأثره، فمنهم من عبر الثقب واخترق، ومنهم من سقط فى الاختبار واحترق، والحمد لله أننى كنت ممن عبروا.
قم من فراشك الآن، انفض عن رأسك وساوس الملل والضجر، استقبل الحياة بقلب نابض بالأمل والمحبة والعرفان لكل ما خلق الله وقدّر، واستشعر فضله عليك فى تشابه الأيام، فمن يدرى ما هو مخبوء فى صفحة المستقبل؟ وخلف أى ثقب أسود تكون قبلتك ومستقر طاقتك، فلو اطّلعت على الغيب لاخترت الواقع لا مراء...لا تنس أن توقف المنبّه.