(1)
الاثنين الماضى، كانت زيارتى الأولى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فى مقره الجديد بمركز مصر للمؤتمرات بالقاهرة الجديدة. بلا شك سيظل معرض القاهرة هو المعرض الأقدم والأعرق، وصاحب الزخم الثقافى الأبرز بين المعارض العربية والإفريقية، بل فى الشرق الأوسط كله بقوته البشرية الضاربة التى ليس لها مثيل.
فى هذا اليوم المزدحم، وقعت كتابى الجديد «سيرة الضمير المصرى»، وهى مناسبة احتفالية سعدت فيها بلقاء الأصدقاء والقراء الأعزاء، والتقيت كثيرين ممن لم ألتقهم منذ فترة طويلة جدا.. استقطعت ساعة فى زحمة اليوم لاقتناص بعض العناوين التى لا تفوت فى المعرض.. جناح الهيئة العامة لقصور الثقافة (وعلى ما هو عليه من الفوضى واللا نظام والتعامل المهين مع الكتاب والزوار، فضلا على رسوخ روتين وبيروقراطية البيع وتسجيل الفواتير يدويا التى لم تتغير منذ عشرات السنوات.. ما علينا!) ما زال ــ ورغم كل هذه السلبيات ــ أحد الأماكن التى تقتنص منها كنوزا بكل معنى الكلمة؛ إنها كنوز النشر الثقيل التى لا تضطلع بها سوى المؤسسة الرسمية. وللأمانة فإن السبب فى هذه الطفرة هو وجود مدير نشر مثقف ولديه رؤية تمكنه من إخراج هذه الكنوز وتيسيرها للجمهور؛ فالشكر كل الشكر للصديق الشاعر والمثقف جرجس شكرى.
ازدهى الجناح، للأمانة، ورغم غلظة وخشونة بل انعدام تأهيل العاملين فيه تماما، أقول ازدهى بقيمة وروعة إصداراته الجديدة فى المعرض، فثمة مجموعات من الكتب لا تفوت بكل معنى الكلمة؛ كلها مهم وكلها قيم، وكلها من روائع وكلاسيكيات الفكر والأدب والتاريخ والفلسفة والفكر المعاصر.
(2)
يأتى على رأس هذه الإصدارات، مجموعة الأعمال الكاملة للمرحوم الشيخ المستنير مصطفى عبدالرازق؛ أقل ما توصف به أنها ثروة معرفية وفكرية وثقافية لا تقدر بمال؛ حقيقة، والمجلدات الأربعة التى تضم كل ما كتبه ونشره الإمام وأستاذ الفلسفة العظيم؛ وضمنها كتابه التأسيسى «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» فضلا عن مقالاته الثرية وبحوثه القصيرة وترجماته.. إلخ. قدم لهذه الطبعة الممتازة ودرسها الدكتور عصمت نصار الذى كانت أطروحته للماجستير عن حياة وفكر الشيخ مصطفى عبدالرازق وآرائه الإصلاحية..
المجموعة الثانية عبارة عن أحد عشر كتابا ضمن سلسلة «الهوية»؛ تضم أهم الكتابات والمؤلفات التى تعالج موضوع «مصر»: تاريخا، وسياسة، وأدبا، وفنا، وحضارة، وشخصية؛ وبالجملة كل ما يكون أو يشكل ملمحا فريدا وخاصا بمصر والمصريين؛ وفى هذه السلسلة كتب كم حلمنا بأن تطبع مرارا وتكرارا، وألا يخلو منها بيت فى مصر ولا مدرسة ولا مؤسسة جامعية؛ إنها زبدة ما يجب أن يعرفه كل متطلع ومتشوق للبحث عن هذا المحيط الشاسع جغرافيا وتاريخيا المسمى «مصر»، و«الهوية المصرية»، و«الشخصية المصرية».
المجموعة الثالثة؛ وتضم قرابة الخمسة عشر عنوانا من روائع وكلاسيكيات الأدب الروسى فى عصره الذهبى فى القرن التاسع عشر؛ بترجمات رصينة رغم أنها قديمة لكنها ترجمات محكمة ومتقنة وقدم لها عدد من كبار الأسماء والمترجمين فى ذلك الزمان؛ ستجد ترجمات لكل من ليو تولستوى الأشهر، وتولستوى ألكسى، وليرمنتوف، وتورجنيف، ودويستوفيسكى..
(3)
لو كان الأمر بيدى لألزمت وزارة التربية والتعليم والتعليم العالى، باقتناء طبعات دورية من هذه السلاسل والإصدارات وتعميمها على المدارس والجامعات، والانطلاق من هذا التعميم لاستعادة الدور المفقود طيلة ما يزيد على خمسة عقود أو أكثر لوزارة التربية والتعليم بل استعادة اسمها القديم الدال (وزارة المعارف) بكل ما كانت تحيل إليه وتدل عليه من تعليم لا ينفصل عن الثقافة ولا الارتقاء بالوعى وربط كل ذلك بمصادر المعرفة الحية ووسائطها.
ولكن للأسف ومنذ أن تم إهمال بل تجاهل بل تعمد فصل التعليم عن التثقيف العام، وتم إقصاء وتهميش الهدف التثقيفى عن مراحل التعليم منذ رياض الأطفال حتى الجامعة؛ وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وتكون النتيجة أن طالبا فى قسم الفلسفة، تصادف وقوفه بجوارى فى الجناح، وكان مندهشا من حماسى وشغفى باقتناء الأعمال الكاملة للشيخ مصطفى عبدالرازق، يسألنى: من هو مصطفى عبدالرازق؟ ولماذا أنت متحمس هكذا لشراء هذه التهمة «4 مجلدات ضخمة»؟!
ويبدو أننى فشلت فى الإجابة عن سؤاله!