نشر موقع 180 مقالا للكاتبة مايا نشأت زبداوى، تناولت فيه تدهور الوضع الإنسانى والسياسى فى غزة ووصوله إلى نقطة «اللاعودة»، مما يتطلب من الجميع الانتقال من مجرد التعاطف إلى «العداء المنهجى للصهيونية» كحل جذرى وفعال لمواجهة الإبادة الجماعية والتفكيك الكامل للنظام الاستعمارى الصهيونى.. نعرض من المقال ما يلى:
فى مطلع هذا الشهر، أعلنت الأمم المتحدة أن الوضع الإنسانى فى غزة قد بلغ «نقطة اللاعودة». لم يتبقَّ ما يمكن أن يُستجد على هذا القطاع المنهك بأرضه، وشعبه، ودوابه.
وفى ضوء ذلك، وقّعت 24 دولة من دول الاتحاد الأوروبى، وهى من الدول الداعمة ماليًا ولوجستيا للإبادة الجماعية الجارية، على عريضةٍ تدعو إلى وقف الحرب فى غزة، بدعوى أن «دوامة العنف لن تفيد أحدًا عند هذه المرحلة». وقد أُعدّت هذه العريضة مسبقًا – وجمهورها بصراحة ما يزال مجهولًا، فهذه الدول هى الوحيدة القادرة، بموجب البند التاسع من القانون الدولى، على كبح جماح الدولة الصهيونية فعليا، عسكريا وماليا إن أرادت. أُعدّت هذه العريضة مسبقًا لتُصدر فى هذه اللحظة التاريخية. إنها «نقطة اللاعودة»، تفرض نفسها كأمر واقع فى قطاع غزة.
• • •
نجا من كمائن القتل المنصوبة حول «مؤسسة غزة الإنسانية»، وتقدّم حاملا شوالا من الطحين زنة 50 كلج. بعد خمسة أشهر من الجوع، شقّ طريقه بين الرمال والركام، حتى وصل إلى منزله فى قلب المدينة المنكوبة فرأته تكنولوجيا المعلوماتية العسكرية تهديدًا وجوديًا على بنية النظام الدولى! لم ينجُ من المسيّرة التى استهدفته شخصيًا، لأن هذا الجسد – جسد الرجل الفلسطينى القادر – لا بد وأن يُمحى.
ليس الجسد هنا مجرد ضحية، بل مؤشر مادى على الخطر الذى تراه المنظومة الاستعمارية الكولونيالية فى «القدرة» – الحول والبأس فالعزيمة، تحديدا فى جسد الإنسان الفلسطينى، لا فى حركته فى لحظة العوز، بل فى إرادة البقاء التى ترفدها، لا فى انكساره، بل فى همّة مسعاه، لا فى صرخة استغاثته، بل فى واقع صموده المدنى المجرّد. هذا الجسد المرفود بوعى جماى متوارث لا بدّ أن ينتهى.
• • •
الآن، بفعل المجاعة وجغرافيا النزوح وتضخم أعداد المصابين، أعيدت هندسة هذا الجسَد – وفى هذه اللفظة بحر من الأدبيات التى عملت عليها مراكز الاستعمار منذ غزواتها الأولى. بعد أن أُعيد تشكيل هندسة هذا الجسد القادر، واغتيل ما تبقّى من الأجساد الممشوقة – رُغما عن التجويع والتعطيش الذى تُعانيه – تلك التى شقّت الصحراء رغما عن شهور من الجوع، لتحمل أكياس الطحين على أكتافها – اغتيلت هذه الأجساد فرديًا وجماعيًا بتكنولوجيا القتل الأوروبية والصينية والأمريكية.
لقد بدأت عملية «غربلة» الأجساد عبر خرائط المساعدات الميدانية، التى يسميها الكادر الطبى الفلسطينى بالكمائن البشرية. غربلة تسعى لاغتيال جسد الرجل الفلسطينى القادر، والإبقاء على الأجساد الضعيفة لتُواجه المستوى الخامس من المجاعة.
هكذا هُندِس الجسد الفلسطينى، ووُضعت معالم واضحة للخريطة البيولوجية لمن سيسميهم التاريخ بـ«الباقين». كما أن هذه الهندسة الجسدية للبنية الفلسطينية البيولوجية، ساهمت فى الكشف عن «الانتصار الليبرالى الأكبر»: تطبيع شعوب العالم مع ظاهرة الإبادة الجماعية. ومع هذا التطبيع نقول «التأقلم» الرشيق والسريع لمثقفينا الوطنيين مع هذه الإبادة وسرعتهم فى تحويلها إلى مصدر رزق وشهرة، إلى حزن لا يعرف فى عتمة أساريره سوى خوف الأنا وعنجهيتها فى آن. وهذه أيضًا، يا سادة، «نقطة اللاعودة».
بهذا، يكون قد أجهز الاتحاد الأوروبى، بريطانيا، والولايات المتحدة على آخر بيئة حاضنة للمقاومة الشعبية ضد الاستعمار. نعم، آخر بيئة حيّة منظمّة (وليسامحنا أهل الأمريكيتين والكاريبى وغيرها من بقاع الأرض)! فمقاومات الاستعمار المبعثرة فى كافة أرجاء المعمورة لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه البنية المركبة للفعل السياسى المقاوم فى الحاضر الفلسطينى – على تشرذمه وعلى علاته. لذلك اضطر المجتمع الدولى، بمواليه ومعارضيه على حد سواء، إلى الإجهاز على هذه البيئة، على ذاك الجسد الشديد.
• • •
لقد تمكّن هذا العالم من التطبيع مع الإبادة، لا بالصمت فحسب بل بتحويل غزة إلى سؤال خلاصٍ شخصى ونرجسيةٍ ذاتية أخلاقوية. فالمتضامن مع فلسطين، يا سادة، ليس أقلّ تورطًا فى هذا الاغتيال الجماعى على أرض غزة من ذاك الصامت.
ليس المطلوب مناصرة الضحية، بل المطلوب تحديد معالم الجلاد أو، بدقةٍ أشد، ليس المطلوب إعلان التعاطف مع المقاوم أو بيئته وحسب، بل كشف البنية الكاملة التى جعلت من قرار تصفيته وآليات تنفيذها أمرا واقعا. قلنا هذا منذ بدايات الإبادة، لكن الليبرالية المتعاطفة أجهضت تلك الفكرة الحيوية، وحرمتها من أى ترجمة حقيقية ملموسة على أرض الواقع.
إن مناصرة الفلسطينى لم تعد فعلاً نافعًا، بل صارت قناعًا لأخلاقيات جوفاء، تستخدمها حتى الحكومات الغربية لتبرّئ نفسها من الواقعة. ما هو مُلحّ الآن هو العداء الصريح والمنهجى للصهيونية، بكل تفاصيلها: بنيتها، أدواتها، مواقعها الموضوعية فى صلب النظام الرأسمالى العالمى.
• • •
أن تكون معاديا للصهيونية يعنى أن تمتلك إطارًا تحليليًا قادرا على فهم الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية فاشية –لا فقط كعدو أخلاقى– بل كهيكل سلطة يجب تفكيكه لأنه يفتك بالبشرية، واضعًا مصيرها إلى مجهول جديد– فالصهيونية ببعدها المركب تبنى مجاهيل جديدة.
إنّها بنية تحتاج إلى موقف يتجاوز العاطفة نحو معرفة دقيقة لبنيانها: من يقف خلف تأسيسها، أدواتها الراهنة، شبكات تمويلها، آليات عقابها، تناقضاتها الراهنة مع اقتصادات العالم، وكيفية تأثيرها وتأثُّرها بحركة الأفراد والدول والمنظمات ضمن نظام دولى معولم.
الركون إلى الجانب الأخلاقى وحده فى الدفاع عن قضايا عادلة لا يُنتج إلا استهلاكا لنرجسيات فردية وأزمات وجدانية، بينما معاداة الصهيونية كمنهج نقدى، تُحوّل الغضب الشعبى إلى قاعدة مادية لتقويض أدوات السيطرة، وإلى رافعة لاستكمال مشروع المقاومة الشعبية بأقل الخسائر، وضمن فضاء الإمكان.
• • •
التعاطف الوجدانى وحده لا يخلق مقاومة، بينما معاداة الصهيونية وحدها هى القادرة على إنتاج وعى نقيض للهيمنة – مقاومة تتكلم بلغة القوة، وتفكر بلغة التحرير. التعاطف لا يبنى حركة تحررية بل يبنى هذا الواقع الذى نحن فى ظلماتِه. الانعتاق من سيرورة الاغتيال هذه يكمن فى تسمية البُنى، ومواجهة سردياتها لا بالمقالات العلمية وحسب بل بلغة التحريض، وفضح اقتصادها العنيف، وتفكيك الأساطير التى تحرسها من خلال الانتظام الجماعى والقيادات المركزية فى المركز الاستعمارى. هذا ما غفلت عنه مقاومتنا المعاصرة، تلك كانت خطيئتها الاستراتيجية الوحيدة.
• • •
جاع أبناء شعبى حدّ النسيان.. إذن، دعونا لا ننسى نحن ها هنا، أن بداية هذه الإبادة كانت فى جنين، وأن بداية الملحمة كانت صرخةً لاسترجاع أسرانا. من منا سيتيقّن من أن النسيان هدف من أهداف الإبادات؟ من منا سيصل بداية الملحمة بحاضرها المفجع؟ هل يجفّ الطوفان عند حناجر أهلنا العطشى، أم يجد لنفسه بقاعًا أخرى على هذه المعمورة يثأر فيها للخذلان الحاضرِ ويتقدّم فيها نحو الهدف الأوّلِ؟