يوميا ولأكثر من ثلاث سنوات من الآن، ولمسافة لا تقل عن ستة كيلومترات أراقب نهر النيل فى تنقلى لعملى وأنا على دراجتى وأكون فى أقرب ما يمكن منه فى عدة مرات بطول تلك المسافة. الرؤية القريبة والمباشرة للنهر وسماع أصوات الطيور المغردة صباحا ومشاهدة بعض أسراب الطيور المهاجرة على فترات مختلفة فى العام، بالإضافة إلى رؤية الصيادين الذين يسكنون النهر. كما توطدت علاقتى بالنهر أكثر وسمح لى ذلك ببناء خبرة خاصة معه، حتى يمكن أن أقول إنه قد أصبح صديقى الذى يبهج حياتى يوميا ليس فقط بلاغيا ولكن حرفيا أيضا.
تاريخيا، ارتبط نهر النيل بأساطير عديدة، فمثلا عده القدماء المصريون معبودا فسموه حابى، وكان قويا ومتقلبا. كما نلاحظ أن أسطورة الخلق لديهم متأثرة كثيرا بالنهر والفيضان، كذلك أظهرت أساطير المنبع ــ الذى يقع تحت جبال القمر ــ بوضوح قيمة ومحورية النهر فى حياة الشعب المصرى منذ القدم. والزائر لمتحف الفاتيكان فى روما لا بد أن يرى تمثال النيل، الذى يتمثل فى صورة رجل قوى يحوطه ستة عشر طفلا ربما يمثلون عدد أقاليم مصر القديمة، ويشار إلى أنه ربما يرجع أصله لزمن الرومان فى مدينة الإسكندرية. ولا شك أن أساطير نهر النيل المتعددة بكل ما فيها من معانٍ وغموض شاعرية وفن تسبغ بعضا من الروح البشرية على هذا النهر العظيم.
قرأت مقالا للكاتبة إليانور إينج روى فى صحيفة الجارديان البريطانية فى ١٦ مارس ٢٠١٧، تناولت فيه كيف أنه ــ ولأول مرة فى العالم ــ تم منح نهر فى نيوزيلندا نفس الحقوق القانونية للإنسان. للتوضيح، كافحت قبيلة الماورى المحلية للاعتراف بنهر وانجانوى فى شمال الجزيرة، وهو ثالث أطول نهر فى نيوزيلندا، تعتبره القبيلة من الأسلاف. حاربت القبيلة لتجد مقاربة فى القانون حتى يفهم الجميع أن التعامل مع النهر ككائن حى هى المقاربة الصحيحة، مقارنة بالمقاربة التى استمرت لأكثر من مائة عام للتعامل معه من وجهة نظر الملكية والإدارة. لأنهم يعتبرون النهر أحد أسلافهم طبقا لما قاله المفاوض الرئيسى للقبيلة فقد بكى مئات من ممثلى القبيلة من الفرحة يوم صدور الحكم القانونى عندما تم منح قريبهم النهر الشخصية القانونية.
يعنى الوضع القانونى الجديد للنهر أنه إذا سعى شخص ما للإساءة له أو التسبب فى ضرر له فإن القانون لا يرى فرقا بين التسبب فى الضرر للقبيلة أو النهر. بالتالى، سيتم تعيين حارسين قانونيين لتمثيل النهر.. واحد من التاج (الحكومة) وواحد من القبيلة. ويعكس القانون كيف ترى القبيلة علاقتها بالعالم ليس كسيدة له ولكن كجزء منه. فهذا ليس ضد التنمية أو الاستخدام الاقتصادى ولكن أيا منهما يجب أن يبدأ من هذه النظرة.
• • •
استضافت سفارة أستراليا فى مصر، منذ أسابيع، أستاذة القانون ومدافعة عن البيئة من جامعة أستراليا الوطنية، لتتحدث عن خبراتها وصاحب الحدث أيضا عرض فنى للوحات إحدى الفنانات من السكان الأصليين. وبعد أن أنهت محاضرتها تذكرت المقال وسألتها عن وجهة نظرها فى إعطاء النهر الصفة القانونية للأشخاص، وهل يكون هذا إحدى الوسائل لحماية النظم البيئة الفريدة والهامة جدا لحياتنا. كان تفكيرى بالطبع يركز على نهر النيل وما يشهده من تدخلات ترقى أحيانا لمرتبة العدوان عليه سواء تحت مظلات ما يسمى بالتطوير أو أى مسمى آخر. كنت أفكر أننا لو أمكننا أن نصل لصيغة قانونية تحمى هذا النهر، الذى هو ليس مجرد وعاء لسائل شفاف ولكنه منظومة تحوى من أنواع الحياة العادية الكثير ولا تستقر وتزدهر الحياة إلا باستقرار وازدهار كل تلك الأنواع. كان فى ذهنى أيضا ما حدث للنيل فى السنوات الأخيرة من اعتداء على تلك المنظومة، بدءا بإلقاء الملوثات المتعددة فيه وانتهاء بردم أجزاء من مجراه حتى لو بدت صغيرة ونهاية بإنشاء العديد من المنشآت بدعوى الاستفادة التجارية من هذا المورد. لو يعلم القائمون بتلك التعديات ومدى الضرر الذى يلحقونه بحياتنا نحن الذين نعيش على ضفاف هذا النهر ومن فيض وسخاء عطائه ربما تراجعوا عن ذلك.
أجابت الأستاذة فيرجينيا مارشال، بأن هناك جدلا حول الجوانب المختلفة لتلك الصفة القانونية، فمثلا ماذا يحدث عندما يتسبب النهر فى ما يمكن أن يعتبر أضرارا للمجتمعات المحيطة؟. وأعتقد أن هذه نقطة مهمة لأن وجود النهر وحركته وفيضانه هى جزء من دورة الحياة التى تعمل على دعم الكائنات الطبيعية والحفاظ على توازن الطبيعة، وبالتالى أعتقد أنه من الصعب نسب أضرار ما لحركة منظومة البيئة الطبيعية لأن ما حدث فعلا أن الإنسان هو الذى تعدى على المساحات الخاصة بتلك المنظومات الطبيعة وأدى إلى أضرار جسيمة بها تكاد أن تودى بها وبنا إلى التهلكة.
ناقشت أيضا هذا الرأى مع بعض المشتغلين بالقانون والبيئة فى مصر، وأدرك صعوبة الطرح لكن نحن بحاجة ماسة للبحث عن مخرج للمأزق البيئى الذى بتنا فيه، وهذا يتطلب تعاونا ونقاشا عاما لمنظومة حياة النهر التى ترتبط بحياتنا ارتباطا وثيقا، ونتطلع لمستقبل نستطيع أن نعيش فيه كجزء من هذه المنظومة البيئية فى سلام ونحتفظ بصحتنا العقلية والنفسية.