تحل في الـ15 من يوليو ذكرى احتلال القدس على يد الحملة الصليبية، وما تبع ذلك من مجازر دامية لم يشهد التاريخ الإسلامي مثلها من قبل، لتكون بداية لعقود طويلة ظل فيها المسجد الأقصى أسيرًا تحت قيود الاحتلال والتدنيس، في فترة تخلى فيها العرب عن ثاني القبلتين، دون استجابة لاستغاثات المقدسيين. لكن هذا الفصل الحزين انتهى بانتصار صلاح الدين الأيوبي واستعادته للقدس، ليعود الزمان ويدور، وتقع القدس مجددًا تحت الاحتلال الصهيوني، حيث يعاني أهلها من التنكيل والإذلال، ويتعرض المسجد الأقصى لكافة أنواع التدنيس والانتهاك من المستوطنين الإسرائيليين.
وتسرد جريدة الشروق وقائع اقتحام الحملة الصليبية للقدس وما تبعها من مجازر مروعة وإهانات للمسجد الشريف، وذلك نقلًا عن كتب "التاريخ الكامل" لـ ابن الأثير، و"النجوم الزاهرة" لـ ابن تغري بردي، و"ذيل تاريخ دمشق" لـ القلنسي.
-القدس بين تناحر الأشقاء وتربص الأعداء
سبق احتلال القدس عام 1099، سنوات من التناحر بين الفاطميين، حكام مصر، والسلاجقة، حكام الشام، حيث خرج الجيش المصري عام 1095 ليستعيد القدس من أيدي السلاجقة، ودار حصار شديد أدى إلى تدمير دفاعات المدينة التي كانت ستحتاجها لاحقًا لصد أي اعتداءات مستقبلية. وانسحب السلاجقة وسيطر الفاطميون، إلا أن هذا الصراع جعل العرب في غفلة عن التحركات التي كانت تدور في أوروبا لتشكيل الحملات الصليبية التي وضعت أنظارها على القدس، فتقدمت الحملة الصليبية وأسقطت حصون السلاجقة في الشام واحدة تلو الأخرى، دون تدخل من الفاطميين أو العباسيين، وبقيت القدس مكشوفة أمام الغزاة بعد اجتياز المدن الشامية.
-القدس والحماية البائسة
قدم الفاطميون حامية صغيرة لحماية القدس رغم الخطر الكبير الذي كان يتهددها، إذ لم يتجاوز عدد الحراس 400 فارس من جنودهم، ورغم إحاطة المدينة بالأسوار والأبراج الحربية، فإن غياب جيش قوي كان كافيًا لتمكين الصليبيين. وصلت الحملة منتصف يونيو 1099 إلى مشارف القدس، وتبع الوالي الفاطمي "افتخار الدولة" سياسة الأرض المحروقة لاستنزاف قوات الفرنجة، فقام بتسميم الآبار وحرق الغابات، ما أعاق تقدم الفرنجة وأخر بناءهم للمجانيق وأدوات الحصار. ورغم استغاثة الوالي بالدولة الفاطمية، بقيت المدينة لـ40 يومًا دون أي نجدة، بينما وصلت تعزيزات بحرية من الجنود الإنجليز للفرنجة مزودين بكل أدوات الحصار اللازمة لاقتحام القدس.
-تضحيات على أبواب القدس
نصب الفرنجة برجي حصار، أحدهما جنوبًا عند باب صهيون، والآخر شمالًا قرب باب الأسباط، وتسلق جنودهم الأبراج لمحاولة اقتحام المدينة، وسط مقاومة شرسة من المدافعين المسلمين الذين تمكنوا من إحراق البرج الجنوبي وقتل عدد من المهاجمين. ومع انشغال الحراس بهذا البرج، تمكن الفرنجة من اختراق الجدار الشمالي والتوغل داخل المدينة، حيث بدأوا في قتل كل من يصادفونه. لجأ عدد من المقاتلين المسلمين إلى محراب داوود وظلوا يقاتلون داخله 3 أيام حتى وُعدوا بالأمان من الفرنجة، فسلموا سلاحهم، لكن الفرنجة غدروا بهم وقتلوا عددًا منهم، بينما سمحوا للباقين بالخروج نحو عسقلان.
-دماء إلى الركب
وصف 3 من مؤرخي الفرنجة "ألبيرت أوف آكين، ريموند أوف جيل، وجيستا فرانكوروم" فظاعة المجازر التي ارتكبت داخل المسجد الأقصى، إذ لجأ سكان القدس إلى المسجد للاحتماء بحرمته، فاقتحمه الجنود وقتلوا كل من بداخله دون تمييز بين رجل وامرأة أو طفل، حتى سالت الدماء ووصلت إلى الكعبين بل الركبتين. تكدست الجثث حتى شكلت هرمًا ضخمًا، واضطر الفرنجة إلى سحب الجثث خارج المدينة بسبب رائحة الموت الكريهة.
وقال الشاعر الأبيودي واصفًا المأساة:
مزجنا دماءً بالدموع السواجم
فلم يبقَ منا عرضةٌ للمراحم
وشرّ سلاح المرء دمعٌ يفيضه
إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيها بني الإسلام، إن وراءكم
وقائعَ يلحقن الذُّرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملءَ جفونها
على هفوات أيقظت كلّ نائم
وإخوانكم بالشام يُضحى مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
-تدنيس الأقصى
ذكر ابن الأثير أن الفرنجة نهبوا مئات القناديل المملوءة بالذهب والفضة من المسجد الأقصى، وتشير الكتابات الأوروبية إلى أن الفرنجة قسموا أرض المسجد فيما بينهم، حيث حولوه إلى مقرات عسكرية لألوية الفرسان، بينما جعل مسجد قبة الصخرة اصطبلًا للخيول، في مشهد مهين يعكس مدى تدنيس المقدسات.
-صلاح الدين يفك قيد القدس الأسير
بعد قرابة الـ100 عام على احتلال القدس، هزم صلاح الدين الأيوبي جيوش الفرنجة في معركة حطين، ولم يبقَ أمامه عائق لدخول المدينة، فحاصرها وضيق الخناق على الحامية حتى استسلمت. دخل صلاح الدين القدس من نفس الباب الذي اقتحمه منه الصليبيون، لكنه لم يذبح أعداءه، ولم يجعل الدماء تسيل، بل منحهم الأمان، وأطلق سراح الفقراء منهم مقابل فدية، ثم أعاد للمسجد الأقصى طهره وزينته، ليعود المقدسيون إلى بلدهم آمنين.