لعل مياه النيل هى أحد أهم ما يجب أن يشغل بالنا واهتمامنا الآن بعد إقامة سد النهضة بإثيوبيا بالقرب من حدود مصر والسودان. بالطبع هناك العديد من الأمور الهامة الأخرى التى للأسف تسود العالم الآن من جنون يكاد يقضى على احتمالات استمرار الجنس البشرى نفسه بسبب التغير الحاد فى البيئة والمناخ، وشراسة التفاوت الاقتصادى بين البلاد وداخل المجتمعات المختلفة نفسها، وأنانية الحكام ودوائرهم المقربة، والحروب الشرسة، والتعجرف السياسى والدينى الذى يسمح بإبادة شعوب وحرمانهم من الطعام. القائمة طويلة، ولكنى أعود إلى النيل وإلى الجرار التى كانت تستخدم فى تبريد المياه قبل غزو الثلاجات. النيل الذى مازال هو مصدر المياه الرئيسى إن لم يكن الأوحد والذى قال عنه المؤرخ اليونانى هيرودوت «مصر هبة النيل».
وكما كان من قبل، لا يمل همس مياه النيل من إغواء الحقول حتى تنبت البذور. لا يكف النهر عن عشق محبوبته الأرض السوداء الغنية بما يحمل لها من فتات جبال وبحيرات على بعد آلاف الكيلومترات. سيخصب بدن الأرض التى ستفتح له كل مسامها بعد جفاف البعاد. سيملأ الشقوق التى انتظرت فى توق أن تبللها المياه بعد حرقة الشمس التى لا تغيب. ومع الفيضان ستبدأ عودة الحياة، وسيحتفل المصريون القدماء ببدء العام الجديد.
الجبال الوردية التى تحمل فى رحمها مقابر الملوك والملكات والأمراء، ستعكس على صفحة النيل أشكالا موحية بمخلوقات تهبط من السماء الباركة فوق الأرض. مخلوقات لها أجساد بشرية، ورءوس بين إنسان وحيوان وطائر، لتجسد الطبائع المتنوعة ولتمثل الصفات المتعددة. أشكال ستحملها المراكب فيما بعد لتُقدس فى المقاطعات المختلفة، أو لتصبح المراكب نفسها مقدسة، فهى كراسى الأرباب الطافية.
وعند نهاية النهار، ستنادى النداهات بصوت ساحر مغر من الأعماق على الرجال السائرين على شواطئ الترع فى طريقهم إلى بيوتهم بعد تعب يوم شاق بالحقول. ليكسبن العرسان الذين سيتوجنهم ملوكا على بحار العالم السبعة. وعلى الشواطئ نفسها وتحت أشجار الصفصاف سيجلس الشباب فى أمسيات الصيف الحارة، يصطادون بصناراتهم المصنوعة غالبا من الغاب. كذلك سيحكون الحكايات عن أزمنة عتيقة فيها كانت تلقى عذراء كل عام ضحية للنيل حتى لا يبخل بمائه. وإذا رقت القلوب سيصبر العشاق منهم أنفسهم بالعزف على الناى مناجاة للحبيب.
ستحمل النسوة على رءوسهن الجرار المصنوعة بمهارة من الفخار والمملوءة بالماء، تهمس وتتراقص على وقع حركة أقدام متمرسة على السير لمسافات طويلة دون كلل. وقد يجلسن على حواف الجسور يغسلن الثياب، ويتبادلن الأخبار، أو يشمرن أذيال ثيابهن بحشمة وينزلن المياه لتعانق أقدامهن الموجات الهينة التى قد حركتها نسمة هواء.
منذ البداية، اعتقد قدماء المصريين أن الإله خنوم إله الفخار هو مشكّلهم وصانعهم من الصلصال على دولابه السماوى. وهذا الإله الذى له جسد إنسان ورأس كبش، هو الذى نفخ فى الإنسان من روح الآلهة ليعطى كل مولود نفسا. وهو الذى علم الإنسان صنع الأوانى الفخارية. ستملأ الجرار المتنوعة الأسواق، وستعبر النيل على مراكب شراعية عملاقة لترحل بين الصعيد والدلتا.
وعن الجرار، يحكى أيضا أن جحا الشخصية الهزلية الحكيمة، أراد أن يستلف جرة من جار له بخيل، لينقل بها بعض الماء من النهر لمنزله. لكن البخيل أعطاه جرة مخرومة. بعد عدة أيام أعاد له جحا الجرة ومعها جرة صغيرة ومخرومة أيضا. وحين سأله البخيل عن قصة الجرة الصغيرة، أجابه جحا بأن جرته قد ولدت جرة صغيرة. عندئذ اقترح الرجل على جحا أن يسلفه جرة سليمة ليحمل بها الماء، على عشم أن تلد له أيضا جرة أخرى سليمة. وحين مرت الأيام ولم يسمع من جحا، ذهب إليه وسأله عن جرته، فقال له جحا إن جرته قد ماتت. فتعجب الرجل وسأله «وهل الجرار تموت؟»
فأجابه جحا: «إن كانت تلد فلم لا تموت».
وإذا استضاف البعض ضيفا وكان ثقيل الدم طويل الزيارة، يقولون عند رحيله: «اكسر وراه قله». حتى لا يعود ويكرر الزيارة.
هذه الجرار ستُملأ بالماء العذب وتوضع على حواف النوافذ فى الصيف لتعرق ويبخر الهواء عرقها فيبرد الماء الذى بداخلها. وأيضا سيضع بعض أهل البِر آنية عملاقة «كالزير» أمام دكاكينهم وعلى النواصى ليشرب منها عابر السبيل.
هذه الجرار الضخمة أيضا تلعب دورا كبيرا فى التراث القصصى الشعبى، إذ نجد فى قصة على بابا الشهيرة أن قاسم رئيس عصابة اللصوص كان يخبئ عصابته المكونة من أربعين حرامى فى جرار كبيرة، وكان يدعى أنه من كبار التجار، وبعد أن ينزل ضيفا على أحد الكرام، فى الليل يقوم اللصوص بالسرقة ثم العودة إلى جرارهم، ليحملهم فيما بعد على الجمال بعد أن نهبوا كل ثمين. وفى مرة وأمام مغارة بالجبل، سمع على بابا قاسم يقول قولته الشهيرة: «افتح يا سمسم»، ورأى باب المغارة ينفتح، ويختفى بداخلها ركب الجمال تحمل الجرار. بعدها يعود على بابا ويكرر كلمة السر ويدخل ويكتشف تلالا من الجواهر والذهب. وأثناء عجبه ودهشته، تعود العصابة فجأة، وتكتشف وجود على بابا وتريد قتله. لكن، وبعد بعض المغامرات، ينتصر الخير على الشر ويفوز على بابا بالكنز.
كما نجد أيضا بعض القصص المثيرة عن العشاق الذين أُجبروا على الاختباء فى إحدى هذه الجرار الضخمة بعد عودة غير منتظرة من غريم، ليجدوا أنفسهم وسط الجرار على ظهر جمال فى رحلة قافلة وسط الصحراء، أو على سطح مركب تعبر البحار. وذلك حسب قدر المحبين.
ولأن الجرار تتشابه أحيانا، ولكنها تختلف فى الشكل والحجم، نجد المثل الذى يقول: «اقلب الجرة على فمها، تطلع البنت لأمها».