شهدت الأيام الأخيرة توترا غير معتاد بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والحكومة الإسرائيلية، على خلفية خلافات حادة بشأن التصعيد العسكري مع إيران وسبل التعامل مع تداعياته.
ويقول الباحث وخبير الأمن القومي الأمريكي براندون وايكيرت في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست إن الحرب الشاملة مع إيران، التي سعت إليها إسرائيل منذ أشهر، تعد جهدا مكلفا للغاية بالنسبة للولايات المتحدة.
فبعد اشعال حرب شاملة ضد إيران من خلال ما اطلق عليه "عملية الأسد الصاعد"، والتي استهدفت قيادات عسكرية إيرانية ومنشآت نووية، بدأ قادة إسرائيل يشعرون بالاستياء من شركائهم الأمريكيين. وذلك رغم أن إدارة الرئيس دونالد ترامب في واشنطن دعمت إسرائيل طوال الوقت، حتى وإن كان ذلك على حساب تعريض القوات الأمريكية في المنطقة للخطر، وربما حتى تحفيز تنفيذ هجمات إرهابية مؤيدة لإيران داخل الولايات المتحدة.
وبحسب تقارير إعلامية حديثة، فقد شهدت مكالمة هاتفية بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مشادة حادة، وذلك بعدما أعلن ترامب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران مساء يوم الإثنين. كما اضطر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون راتكليف إلى إجراء مكالمة مماثلة متوترة مع نظيره في جهاز الموساد الإسرائيلي.
والسبب هو أن إسرائيل انتهكت مرارا وقف إطلاق النار الذي أعلنه ترامب خلال الساعات التي تلت إعلانه.
ووفقا لرواية ترامب للأحداث الأخيرة، فإن الجيش الإسرائيلي خرق وقف إطلاق النار تقريبا بمجرد دخوله حيز التنفيذ، ما دفع إيران إلى تنفيذ موجة من الهجمات الانتقامية. هذا التطور دفع ترامب إلى الإدلاء بتصريح عفوي أمام الصحفيين صباح الثلاثاء، قال فيه إن "لا إسرائيل ولا إيران يعرفان ما الذي يفعلانه بحق الجحيم!".
لكن وايكيرت يقول إن الغضب الأكبر جاء من قادة إسرائيل وداعميها حول العالم. فمع أن الأوساط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وخارجها احتفلت بقرار ترامب دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران، وكذلك قراره استهداف منشآت إيران النووية بشكل مباشر، انقلبت عليه نفس الأوساط وبدأت تشن هجوما واسعا ضده على وسائل التواصل الاجتماعي فور إعلانه وقف إطلاق النار.
ولطالما شعرت إسرائيل بالتهديد من إيران على مدار سنوات. وبالنسبة لشريحة كبيرة من القادة الإسرائيليين، فإن الوقت قد حان ليس فقط لتدمير منشآت إيران النووية وتقويض قدراتها، بل أيضا لإنهاء هذا التهديد بشكل نهائي. غير أن تحقيق هذا الهدف يتطلب مشاركة عسكرية أمريكية حاسمة، وهو ما يستلزم دعما كاملا من ترامب.
ويقول وايكيرت إنه هنا تكمن المشكلة. فترامب يدرك جيدا خطورة التصعيد، سواء على مصالح الولايات المتحدة أو على إرثه السياسي. ولهذا، فإن الرئيس الأمريكي الـ47 يسعى لإيجاد طريق وسط، لا يقوم على استرضاء إيران، كما كان يتهم منتقدو الرئيس الأسبق باراك أوباما، ولا على التورط في حرب لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط، على غرار المستنقع الذي غرقت فيه إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش في العراق.
وقد أثبت ترامب للتو أنه قادر على صياغة هذا الخيار الثالث. ففي هجمات نهاية الأسبوع، نفذ ترامب ضربات محددة استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، التي لا تهدد إسرائيل وحدها بل الولايات المتحدة أيضا، لكنه في الوقت ذاته قرن هذه الهجمات بدعوات إلى دبلوماسية حقيقية، ورغبة في إلزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار.
ويقول وايكيرت إنه يمكن للمرء أن يلمح لمسة من فلسفة ترامب في كتابه "فن الصفقة" في هذا النهج. لكن الصفقة التي يعقدها ترامب تترك إسرائيل في وضع صعب، فبمجرد اكتمالها، سيظل القادة الإسرائيليون يواجهون إيران أكثر تطرفا من أي وقت مضى، مع قدرة نووية مستعادة أصبحت أكثر خطورة في أعقاب الحرب الأخيرة. وهذا تحديدا ما تسعى إسرائيل جاهدة لتجنبه، ولهذا تدفع بلا توقف نحو التصعيد.
لكن الدخول في حرب شاملة مع إيران هو أمر مكلف للغاية بالنسبة للولايات المتحدة في هذا التوقيت. ولذلك، باعتبارها الشريك الأكبر في هذا التحالف، تتجه واشنطن إلى مسار ثالث يتماشى مع رؤية ترامب القائمة على الصفقات.
ويرى وايكيرت أن هذا النهج لم يُرض أحدا. فالصقور يشمون رائحة دم خامنئي في الماء ويريدون من ترامب أن يذهب أبعد من ذلك. أما الحمائم، فيرون أنه قد تجاوز الحدود بالفعل. الإسرائيليون لا يقبلون بأقل من إسقاط النظام الإيراني بالكامل.
وفي المقابل، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باعتبارها ثيوقراطية إسلامية متطرفة، أقل ميلا بكثير لفكرة "التعايش السلمي" حتى مما تبدو عليه إسرائيل. ومع وجود لاعبين بهذه العقلية، يُعدّ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في الأساس أمراً شبه معجزة أنجزه ترامب وفريقه.
لكن حقيقة أن جميع هؤلاء اللاعبين مستاؤون من تصرفات ترامب، تشير إلى أن ترامب نجح في فك الشفرة الخاصة بالتعامل مع الشرق الأوسط.
ويقول وايكيرت إنه يكفي أن نعود إلى خطاب ترامب الشهير في الرياض. في ذلك الوقت، أعلن ترامب القطيعة مع التيار المحافظ الجديد في واشنطن، الذي ظل يهيمن على السياسة الخارجية الأمريكية لعقود، واستغل نفوذه لجر أمريكا إلى مغامرات عبثية في الخارج. وأكد ترامب حينها أن تلك الأيام قد ولّت. وبدلا من ذلك، عرض نهجا جديدا يقوم على "التجارة بدلا من الصراع". نعم، كان مستعدا لاستخدام القوة عندما تستدعي الحاجة، لكنه لم يكن مستعدا لتكرار أخطاء أسلافه بإغراق الجيش الأمريكي في حروب إسقاط الأنظمة ونشر الديمقراطية التي لا طائل منها.
و\من خلال مقاومته لضغوط شركائه الإسرائيليين الغاضبين ورفضه في الوقت نفسه الخضوع للطموحات النووية الإيرانية، جدد ترامب التزامه بمبادئ عدم التدخل، التي ظل يروج لها على مدى ما يقارب عقدا من الزمن. وحتى الآن على الأقل، أثبت خطأ منتقديه الذين اتهموه بالتهور والزج بأمريكا في حرب جديدة في الشرق الأوسط.
ويختتم وايكيرت تقريره بأن السؤال الأكبر يبقى: هل سيتمكن ترامب من الحفاظ على دعم إسرائيل لفترة كافية للوصول إلى نهاية أكثر ديمومة لهذا الصراع، تسمح للقوات الأمريكية بالانسحاب بشكل أكبر من ساحة القتال؟
ويقول: "فقط الزمن هو الكفيل بالإجابة".