ساقتنى المقادير سوقا للتبحر فى فقه الصلح فى الإسلام.. ووجدت أن هذا الفقه غائب عن حياة العلماء والدعاة والفقهاء فضلا عن عوام المسلمين.. فقد تسمع آلاف الخطب تحث على الصدام والمواجهة والمنازلة.. أو تشجع على الصراع السياسى والدينى أو العرقى دون أن تسمع خطيبا أو عالما أو فقيها واحدا يتحدث عن فقه الصلح.
إنه نوع من أنواع الفقه الإسلامى المهجورة فى عالم المسلمين مثل فقه النتائج والمآلات وفقه المصالح والمفاسد وفقه الأولويات وفقه الضرورات وفقه الأقليات المسلمة فى بلاد غير المسلمين.. وفقه غير المسلمين فى بلاد المسلمين.. وفقه المراجعة.
فالصلح هو أعظم آلية شرعها الإسلام لإنهاء النزاعات والصراعات بين المسلمين وغيرهم.. أو بين المسلمين فيما بينهم.. ولولا هذه الآلية العظيمة والرحيمة والحكيمة التى شرعها الإسلام لاستمر أى قتال أو صراع إلى ما لا نهاية.. أو تحول إلى غاية حتى يفنى أحد الطرفين الآخر.. أو تراق بحور من الدماء.
فالصلح هو أعظم آلية لحقن الدماء وصيانة الأرواح.. وقد جعلت الشريعة الإسلامية ضابطين فقط للصلح وهو تحقق المصلحة وألا يحل الصلح حراما أو يحرم حلالا.
وخيار الصلح هو من الخيارات النبوية الراشدة.. إذ إنه لم يغب يوما عن حسابات النبى السياسية أو اختياراته النبوية والفقهية والعملية.. فقد صالح قريشا على الشرط الجائر رغم شدة عداوتها ومحاربتها له ولأصحابه.. وصالح اليهود رغم تكرار نقضهم لعهده.. وهمَّ أن يصالح غطفان على أن يعطيها ثلث ثمار المدينة حتى تنصرف عن حصار المدينة مع الأحزاب.
وقد قبل رسول الله الضيم والهضم فى صلح الحديبية تغليبا للمصلحة العامة وحقنا للدماء.. فقد طلب منه «سهيل بن عمرو» مفاوض المشركين شطب كلمة «الرحمن الرحيم» فوافق.. وشطب «رسول الله» فوافق أيضا.. كما وافق على أن يأتى من قريش مسلما يرده إليها فى حين لا يحدث العكس.. ووافق على أن يؤجل عمرته إلى العام القادم بدلا من هذا العام.. ورغم كل هذا الضيم والهضم فى صلح الحديبية سماه الله «فتحا مبينا » لأنه حقن الدماء وأوقف الحروب بين الطرفين.
وفى هذه الفترة أسلم معظم كبار الصحابة مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما ممن نقلوا الإسلام نقلة عظيمة إلى الأمام.. فقد كانت هذه الفترة كافية لأمثالهم للتأمل فى هذا الدين العظيم بعيدا عن جو الصراعات والدماء الذى يقتل الدعوة ويعطلها.. ويدعو كل طرف للثأر من خصمه.
لقد اغتاظ بعض الصحابة لهذه الشروط المجحفة ولكن أبا بكر كان سباقا فى التوكل مع استشراف المستقبل.. فكان يقول لهم «إنه عبدالله ولن يضيعه الله».
إن أعظم ما استفدته من تجربة مبادرة وقف العنف والتى كانت سببا فى إخراج قرابة 12 ألف معتقل من السجون بعد تحسن أحوالهم فيها هو أن الصلح يحتاج إلى توكل على الله أشد من الحرب والنزال.
كما يحتاج أن تبيع جاهك لوجه الله ولحقن دماء المسلمين وتفريج كرباتهم.. فكل من أقام صلحا شتم وأهين.. فقد قيل للرسول يوم الحديبية «لم نرض الدنية فى ديننا» ولولا نزول القرآن بوصفه «فتحا مبينا» ما سكتوا.
وهذا الحسن بن على الذى أعطاه الرسول وسام السيادة يقول له قومه: «يا مذل المؤمنين».. فيرد عليهم: «قد كانت جماجم العرب بيدى فكرهت أن أقتلكم على الملك».. ولم يقل «على الدين» كما يزعم البعض اليوم.. لقد كان صادقا معهم أن هذا قتال على الملك والسلطة والحكم.
وهذا السادات ضحى بحياته من أجل إرساء ما استطاعه من سلام بحسب قدراته وإمكانياته.. وكل الذين شتموه وأهانوه من الدول الأخرى لم يحققوا حتى اليوم أى شىء مما حققه من نصر أو سلام ولم يحرروا أرضهم كما حرر أرضه حربا وسلما.