كتبوا الكثير عن المبادرة التى عرضتها الصين على معظم دبلوماسيات العالم متضمنة اقتراحات وشروط لوقف الحرب الناشبة بين روسيا وأوكرانيا. كتبوا عن الموقف الصينى المتميز من هذه الحرب وعن ردود الفعل على المبادرة وعن فرص نجاحها وفرص فشلها. لاحظت، كما لا شك لاحظ آخرون، أن معظم ردود الفعل عكست أو لعلها كشفت حقيقة نوايا الدول صاحبة هذه الردود. اتضح أكثر من ذى قبل أن لبعض الدول مصالح فى فشل هذه المبادرة، أى فى استمرار الحرب. اتضح أيضا أن دولا غير قليلة العدد رحبت بالمبادرة وتفاءلت خيرا، هذه الدول تستحق أن أطلق عليها دول الرأى الثالث تمييزا لها عن دول الرأى الأول وأقصد الولايات المتحدة وأكثرية أعضاء الحلف الأطلسى، وهى الدول المشتركة فعليا فى الحرب فى صف أوكرانيا، بمعنى انغماسها فى دعم أوكرانيا بالسلاح والمال وفرض العقوبات على روسيا والدول المتعاونة معها، وتمييزا لها أيضا عن دول الرأى الثانى الداعم كلية للموقف الروسى المصاحب للتدخل العسكرى فى أوكرانيا وإعلان استقلال جمهوريتين ناطقتين باللغة الروسية وتقعان فى شرق أوكرانيا المتاخم للأراضى الروسية، وهذه دول قليلة العدد. يكاد العدد لقلته ينحصر فى ثلاث أو أربع دول. اليوم فكرت أن أعرض بالإيجاز الممكن بعض ما تسرب من أفكار وتعليقات وآراء حول مبادرة الصين.
• • •
أولا: الصين، بتقديمها هذه المبادرة، نجحت فى أن تثير الاهتمام بقضية هى حسب اعتقادى القضية الأهم فى جدول اهتمامات القيادة الراهنة للحزب الشيوعى الصينى. هذه القضية هى الحاجة الماسة لصياغة مفهوم ومحتوى وشكل نظام دولى جديد تروج لقيامه الصين وروسيا ويتحمس له عدد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. انضمت إليها دول أوروبية كشفت مؤخرا وبالتحديد خلال الأزمة الأوكرانية الحالية عن مظاهر تململ وعدم ارتياح إزاء النظام الدولى الراهن، وتسميه الصين نظام هيمنة القطب الواحد.
ثانيا: صدر عن مسئول كبير فى البيت الأبيض ما معناه أن العقد القادم حاسم بالنسبة لإقرار شروط المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. صدور مثل هذا التصريح فى الظروف الراهنة يوحى بوجود رابطة تربط الحرب الناشبة بين أوكرانيا وروسيا بالحملة الفريدة فى نوعها التى تشنها الولايات المتحدة ضد الصين. توحى أيضا بأن للصين دورا فى هذه الحرب إلى جانب روسيا إن لم تلعبه حتى الآن ولو فى الخفاء فسوف تلعبه جهارا فى أقرب وقت. المثير والغريب نجده فى الاتهام الأمريكى بأن الصين تستعد لدعم روسيا بالسلاح الأحدث ليتكرر بغزارة لافتة قبل أيام من إطلاق الصين مبادرتها لتحقيق السلام. الأمر الذى يجد تفسيره فى الحملة الشرسة التى نظمتها واشنطن وسيّرتها ضد المبادرة الصينية، فى وقت كان رد الفعل الأوكرانى عليها معتدلا بل لعله بدا لنا فى أيامه الأولى مرحبا كما بدا الرأى الأوروبى منقسما وفى أغلبه باردا بينما ركز الإعلام الأمريكى وإعلام الحلف منذ اللحظة الأولى على إدانة المبادرة لأنها حسب الرأى الرسمى الأمريكى صدرت لتخدم مصالح روسيا.
ثالثا: قيل فى تقويم المبادرة الصينية أن توقيتها مناسب ولكن الوقت غير مناسب. لعل القصد من التوقيت المناسب هو مرور عام على حرب باهظة الكلفة والضحايا والدمار، هو أيضا الإنهاك الذى أصاب العالم بأسره والصعوبات اليومية التى صارت تواجه كافة الشعوب. أما الوقت غير المناسب فالقصد منه أن أمريكا لا تزال على إصرارها أن تستمر الحرب حتى تنهزم روسيا هزيمة ماحقة بينما تظل أمريكا الدولة الكبيرة الوحيدة التى لم يصبها أذى خطير، بل يبدو على العكس أنها جنت مكاسب من ارتفاع أسعار النفط والتشغيل شبه الكامل لمصانع السلاح وغيره من حاجات الحرب. وعلى عكس الاعتقاد الأمريكى بأن المبادرة صدرت لصالح روسيا الفاشلة فى الحرب والخاسرة بسبب العقوبات المفروضة عليها (أكثر من 1700 عقوبة حتى لحظة كتابة هذه السطور) تبدو روسيا قادرة على أو راغبة فى مد أجل الحرب حتى تحقق كافة أهدافها منها.
رابعا: قيل إن الصين بعرضها مبادرة سلمية أرادت أن تبعد عن نفسها أى شك فى أنها يمكن أن تغير موقفها من الحرب فتتحول تحت الضغط الأمريكى حليفا لروسيا. سمعت من شخص عالم بشئون الشرق الأقصى ومتابع جيد لتحركات استخباراتية ودبلوماسية أن الصين شعرت فى الآونة الأخيرة بزيادة ملحوظة فى محاولات جرها إلى حرب أخرى فى شرق آسيا سواء باستفزازها بتدخل شبه عسكرى فى تايوان أو بوقيعة بينها وبين اليابان أو كوريا الجنوبية إذا هى استمرت ترفض التدخل مع روسيا شريكا فى الحرب أو بالدعم الصريح. الصين كما يعلم أغلب المراقبين ملتزمة حزبا ومراكز عصف فكرى بالقرار القديم الأجل بعدم التدخل خارج الحدود وعدم الإقدام على تنفيذ سياسات استراتيجية غير عادية قبل منتصف القرن حين تكون الصين استكملت تحضير نفسها للعب دور القطب الدولى المرموق.
خامسا: تدرك الصين كما يفكر بعض المعلقين المتابعين لتطورات الموقف داخل أوكرانيا وحولها أن للحرب الأوكرانية خلفية طويلة ومعقدة. تدرك بالتالى أنه من غير المفيد مسايرة هذا الطرف أو ذاك أو الاقتناع بدون مناقشة بدعاوى كل الأطراف. كان الأجدى من البداية أن يبقى الخلاف أو العلاقة محصورة بين حكومتى أوكرانيا وروسيا خصوصا فيما يتعلق بحقوق روسيا التاريخية فى شبه جزيرة القرم. كان من الضرورى أيضا أن تحترم الولايات المتحدة ما التزمت به فى اتفاقيات دولية بعدم التمدد بالحلف الأطلسى فى شرق أوروبا أو الاقتراب من حدود روسيا. كان الأفضل لكل الأطراف أن يقدم قادة الحلف ضمانات أمنية لروسيا بدلا من التهديد المستمر لأمنها ووحدة كيانها بالتمدد نحو حدودها. تعتقد موسكو الآن أن واشنطن تخطط لتقسيم روسيا وتفكيك الاتحاد وأن الحرب الناشبة حاليا هدفها التمهيد للتقسيم أو التفكيك.
سادسا: أنا شخصيا لا أستبعد أن تكون الصين أقدمت على طرح هذه المبادرة أملا فى تحريك الموقف نحو تفاهم أو برهة من الوقت تسمح لكل الأطراف إعادة النظر فى تحركاتها وإعادة صياغة أهدافها من هذه الحرب. أكاد أكون واثقا من أن روسيا، وإن كانت غير نادمة على قرارها غزو أوكرانيا إلا أنها صارت خلال عام واحد من الحرب فى وضع عسكرى حرج بالنظر إلى الإمكانات الهائلة التى وضعت رهن مشيئة أوكرانيا. من ناحية أخرى لا يجوز أن نقلل من شأن الدور الذى لعبته معظم دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بامتناعها عن تأييد رد فعل الحلف الأطلسى بالرغم من الضغوط الأمريكية. ولا شك أن الهند ودولا عربية بعينها وإيران جسدت أمثلة بارزة على قسوة بعض هذه الضغوط والتهديدات.
• • •
الغريب فى هذه الحرب أنها خلقت مصالح لها صارت تعمل بذاتها لضمان استمرار الحرب. بعض هذه المصالح قوى ومتشعب وقادر على إبطال مفعول مبادرات السلم العديدة التى طرحت خلال العام. الأغرب من وجهة نظرى هو ما سوف نكون ضحايا له أو شهودا عليه فى الشهور وربما السنوات القادمة، أقصد المراحل التالية فى سباق الصعود إلى القمة فى عالم الغد.