بعد إعلان بريطانيا تصريح 28 فبراير المشار إلى تفاصيله فى مقال الأسبوع الماضى، وقيام الملك فؤاد بتنصيب نفسه ملكا للبلاد فى وقت غاب فيه الزعيم سعد زغلول فى منفاه بجزيرة سيشل، فقد سنحت الفرصة لحكومة ثروت باشا أن تقوم بالإسراع فى تشكيل لجنة دستور 1923 ووضع قانون الانتخابات البرلمانية بشكل لم يمثل سوى رغبات الملك ومصالح كبار الطبقة البرجوازية فى مصر، بينما استبعد أى تمثيل للوفد أو الحزب الوطني! وهكذا فقد تشكلت لجنة الدستور دون تمثيل معظم التيارات السياسية المصرية ووضعت دستورا عزز كثيرا من وضع الملك، الذى حصل على حق تعين الحكومة وإقالتها، وحل البرلمان وتأجيل انعقاده وإصدار المراسيم فى غيابه وتعيين خُمس أعضاء البرلمان بشكل منفرد. ورغم كل هذه الامتيازات التى تحصل عليها فؤاد إلا أنه لم يكن راضيا عن صياغة الدستور؛ حيث رأى أنه يخصم الكثير من صلاحياته!
جاء قانون الانتخابات البرلمانية ليؤكد الاتجاه لتمثيل طبقة الأعيان فقط، حيث اشترط الدستور والقانون أن يكون الترشح لعضوية البرلمان قاصرا على من يبلغ دخله السنوى 1500 جنيه مصرى كحد أدنى وأن يكون من دافعى ضرائب سنوية لا تقل عن 150 جنيها!
ورغم كل هذه التضييقات، إلا أنه وفور عودة سعد زغلول من منفاه، فقد اكتسح انتخابات 1924 ليشكل أول وآخر حكومة ترأسها وحتى وفاته فى 1927! كانت وفاة سعد فرصة للملك فؤاد كى يزيد من سلطاته؛ فأخذ فى تقريب طبقات الأعيان منه ومن القصر، ثم قام بإنشاء عدة أحزاب مثل حزب «الشعب» وحزب «الاتحاد»، ورغم أن الحزبين لم يتمكنا أبدا من السيطرة على الحياة البرلمانية أو الحزبية فى مصر، ولكنهما لعبا دورا هاما فى زيادة الاستقطابات والانقسامات بين الأحزاب الأخرى، كما أنهما مكنا الملك من بسط المزيد من السيطرة على الوزارات التى تألفت بعد 1927 وهو ما مكن فؤاد فى النهاية من إلغاء دستور 1923 الذى لم يكن راضيا عنه، واعتماد دستور 1930 الذى زاد من سلطاته وصلاحياته فى مواجهة البرلمان والوزارة معا!
***
كانت السنوات التالية لدستور 1930 ممهدة لتمكين الإنجليز من الضغط على حزب الوفد للتوصل إلى معاهدة 1936، فبينما فشلت كل المفاوضات بين الإنجليز والوفد منذ تصريح 28 فبراير وحتى 1930، إلا أن الأزمة الدستورية التى انفجرت بفعل دستور 1930 وما تلاها من انتخابات تم التلاعب فى نتائجها عام 1931 لتمهد الطريق لحزب «الشعب» المدعوم بواسطة القصر من تشكيل الوزارة وما نتج عن ذلك كله من اضطرابات شعبية، فضلا عن زيادة تهديد إيطاليا الفاشية للمصالح البريطانية فى أفريقيا وتشجيع المصريين للثورة على الإنجليز أدى فى النهاية إلى تقارب حزب الوفد برئاسة النحاس باشا والحكومة البريطانية والذى ساهم فى النهاية التوصل إلى اتفاق 1936!
ورغم أن هذا الاتفاق قد عكس سيطرة الإنجليز على النحاس باشا الذى خرج بعد عقد المعاهدة ليقول إنه قد يكون خسر المعاهدة ولكنه كسب صداقة الإنجليز! إلا أن المعاهدة فى النهاية قد حققت بعض المطالب الوطنية للمصريين، مثل إنهاء احتلال مصر عسكريا بواسطة القوات البريطانية وحصول مصر على تأييد بريطانيا للانضمام إلى عصبة الأمم، إلا أن المعاهدة أيضا قد نصت على تقديم مصر لكل التسهيلات حالة الحرب لصالح بريطانيا بما فيها استخدام الموانئ المصرية والمطارات ووسائل المواصلات وصولا إلى إعلان الأحكام العرفية لتسهل مهمة بريطانيا وقت الحرب أو الخطر!
ورغم أن الاتفاقية قد حاولت تقديم إرضاء للمصريين فيما يتعلق بوضع قناة السويس وتأكيد السيادة المصرية عليها، إلا أنها قد راوغت فى النهاية لتؤكد على وجود قوات بريطانية فى القناة للتعاون مع القوات المصرية فى إدارة الملاحة بالقناة إلى حين التوصل لاتفاق نهائى بهذا الشأن، مقيدة الوجود البريطانى الحربى بـ 10 آلاف من القوات البرية و400 طيار بالإضافة إلى «العدد اللازم» من الإداريين والفنيين البريطانيين لإدارة الملاحة بالقناة!
كذلك فقد نصت الاتفاقية على استمرار الإدارة المشتركة للسودان وفقا لاتفاقية 1899 وتنازل بريطانيا عن الامتيازات الأجنبية وإلغاء كل ما يقيد السيادة المصرية (لمزيد من التفاصيل حول الطريق إلى عقد المعاهدة والظروف الدولية والداخلية التى قادت إليها يمكن مراجعة كتاب تطور الحركة الوطنية فى مصر من 1918 إلى 1936 الصادر عن مكتبة مدبولى فى طبعته الثانية عام 1983 للمؤرخ عبدالعظيم رمضان، الصفحات من 785 إلى 793).
***
الحقيقة أن المؤرخين والكتاب والسياسيين المصريين قد اختلفوا فى تقييم معاهدة 1936، فبينما يراها البعض تقدما ملموسا ونصرا للمصريين وخاصة إذا ما تم مقارنتها بما سبقها من اتفاقات ومفاوضات مع البريطانيين بعد ثورة 1919، يرى البعض الآخر ومنهم عبدالعظيم رمضان وحسنين هيكل أن ذلك المعيار غير دقيق كون أن الظروف الدولية وقت عقد المعاهدة تختلف كليا عن تلك التى كانت قائمة قبلها بـ 15 عاما!
وهنا يقترح هيكل ورمضان وعمر عبدالعزيز وغيرهم معيارا آخر للتقييم وهو مقارنة الاتفاقية بالمعنى الحقيقى للتحرر والاستقلال، فهل قادت نصوص المعاهدة حقا إلى الاستقلال؟
يقترح رمضان (تأييدا لهيكل) أن يتم تقييم النص النهائى للمعاهدة بموقف الطرفين المصرى والبريطانى وقت بدء المفاوضات بين النحاس باشا وهندرسون فى 1930، فبالقياس على الموقف المصرى وقتها يمكن رصد بعض التنازلات المصرية فى النص النهائى للمعاهدة وأهمها تنازل مصر عن مطالبتها بأن تكون القوات البريطانية الموجودة فى القناة لا تتخطى 8 آلاف جندى 1930 ولكن انتهت الاتفاقية بزيادة ألفين، وكذلك انتهت الاتفاقية بزيادة المساحة الجغرافية لتمركز القوات البريطانية بالقرب من قناة السويس عكس الرغبة المصرية التى كانت تطمح إلى حصر مساحة الانتشار الجغرافى للقوات البريطانية!
كذلك يمكن رصد تنازل آخر قدمته مصر فى الاتفاقية، فبينما كانت رغبة المصريين فى بداية المفاوضات هو النص على تقديم مصر التسهيلات لبريطانيا فى حالتين فقط وهما الحرب والخطر، فإن الاتفاقية انتهت بإضافة حالة ثالثة وهى حالة قيام «حالة دولية مفاجئة يُخشى خطرها» دون تحديد دقيق لمعنى هذه العبارة الغامضة!
ورغم هذه التنازلات، إلا أن النص النهائى للمعاهدة يكشف أيضا عن اضطرار المفاوض الإنجليزى إلى تقديم بعض التنازلات للطرف المصرى، فبينما كان يريد الإنجليز فى بداية مفاوضات النحاس ــ هندرسون الإبقاء على الامتيازات الأجنبية، إلا أن النص النهائى لمعاهدة 1936 قد ألغاها تماما، كذلك فبينما رغب البريطانيون الإدارة المنفردة لملف السودان وتقييد حرية سفر المصريين إليها، إلا أن النص النهائى قد أكد على الإدارة المشتركة بين مصر وبريطانيا للسودان مع إتاحة حرية الحركة للمصريين إليها!
كذلك فبينما برر النحاس باشا موقفه النهائى من الاتفاقية بأنها حققت الاستقلال الحقيقى لمصر كونها نصت على ذلك صراحة فى المادة الأولى من ناحية، وكونها أيضا وضعت قيدا ماديا على وجود القوات البريطانية بشكل مؤقت وهو حال وصول الجيش المصرى إلى ما يؤهله للقيام بالدفاع عن مصر بمفرده، ولكن يمكن أيضا بسهولة رصد أن ذلك الشرط الأخير هو شرط شديد العمومية والغموض كونه لم يقدم أى معيار محدد لتلك النقطة التى يمكن عند الوصول إليها اعتبار الجيش المصرى مؤهلا!
وهكذا فرغم بعض الانتصارات التى حققتها الاتفاقية لمصر، إلا أنها تبقى انتصارات اسمية من ناحية والأهم أنها عجزت عن إنهاء الاحتلال الإنجليزى وتحقيق الاستقلال الفعلى للبلاد وهو الأمر الذى لم يتحقق سوى بعد حركة الضباط الأحرار فى 1952!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر