يتفّق جميع المهتمّين على أنّ الفقر، بل الفقر المدقع، بات يشمل أغلبيّة السوريين فى سوريا وإن جاء الاختلاف فى تفسير الأسباب.. وفى سبل مساعدتهم للخروج من هذه الفاقة. إلاّ إنّ قلّة تلحظ أنّ هناك نهضة عمرانيّة، ونوعا ما اقتصاديّة، فى الشمال السورى المفصول عن الدولة، خاصّةً الشمال الغربى. وذلك رغم تراجع المساعدات الخارجيّة المقدّمة من الأمم المتحدة والدول المانحة رويدا رويدا.
شمال غربى سورى يحوى أكثر نسبة من النازحين الداخليين، أكثر من نصف القاطنين هناك. ويتوزّع هؤلاء النازحين على أكثر من ألف وأربعمائة «مخيّم»، مع العلم أنّ قلّة منها لم تعُد مخيّمات بل أضحت مدنا، مثل أطمة الملتصقة بالحدود مع لواء الاسكندرون، وأنّ جزءا ضئيلا من النازحين يقطنون فى البلدات القائمة.
لقد نشأ فى الواقع مجتمعان فى الشمال الغربى. مجتمع النازحين ومجتمع المقيمين. لا روابط ولا زيجات بينهما. هذا رغم أنّ أغلب النازحين أتوا من مناطق جوارٍ قريب.
مجتمع النازحين مدقـعٌ فى الفقر. فقد أملاكه وسبل رزقه ويعتاش على الحصص الغذائيّة وتحويلات المغتربين واللاجئين. وكلّها غير منتظمة وغير كافية. بل يشكّل العمل الموسميّ بالزراعة والقطاف والعمل الهشّ، خاصّة فى ورش البناء والمحاجر وبعض الورش والمعامل، مصدرا أساسيّا له. وإن كانت الأجور بخسة للغاية. هذا دون نسيان أنّه حسب المخيّمات وموطن النازحين الأصليّ ينخرط كثير من الشباب مقابل أجر فى الفصائل للقتال فى سوريا وفى غيرها. كما تساهم تطبيقات الهاتف المحمول كـ«الكوينزات» فى جلب دخلٍ إضافيّ لمن عرف كيفيّة استخدامها.
لكن مازالت أغلب المخيّمات.. خيما. فى حين يدفع أغلب أصحابها أجرا للأرض المقامة عليها، حتّى لو كانت تلك الأرض ملكا عامّا (أرض دولة). بحيث يذهب معظم ريعها للفصائل العسكريّة المهيمنة، «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقا) أو غيرها. أى أنّ جزءا من المساعدات الغربيّة تذهب فى النهاية لتمويل هذه الفصائل. أمّا المساعدات الغذائيّة العينيّة فهى ليست منتظمة ويعاد تدوير جزءا منها فى السوق للحصول على مالٍ للحاجات الأخرى. وتوزيع مياه الشرب غير منتظم أيضا. أمّا ألواح الكهرباء على الطاقة الشمسيّة فقد اشتراها النازحون بما لديهم. وتفتقر معظم المخيّمات لسبل التدفئة والمدارس والمستوصفات.. وحتّى لسبل النقل إلى مراكز الشغل فى البلدات المجاورة.
من ناحيته، بات مجتمع المقيمين يقوم فى معظمه على التجارة فى ظلّ الانفتاح التجارى مع تركيا. وتفرض الفصائل المهيمنة أتاوةً على ما يمرّ عبر المعابر مع تركيا، مساعداتٌ كانت أم بضاعةٌ للتبادل. هكذا أصبحت سرمدا والدانا وإعزاز «عواصم» تجاريّة تشهد نهضة عمرانيّة كبيرة. ونشأت فيها مصارف (مصرف «الشام» فى إدلب) وشركات نفطيّة («وتد») وغيرها... كذلك يقوم مجتمع المقيمين على أغلب المنظّمات التى توزّع المساعدات على النازحين، فى حين لا تستطيع المنظّمات الدوليّة القيام بذلك مباشرةً، خاصّة فى المناطق التى تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» المصنّفة دوليّا إرهابيّة. كما يقوم المجتمع المحليّ على «المجالس المحليّة» التى تشكّل هى أيضا وسيلة التواصل «سياسيّا» مع الخارج والجهات المانحة حتّى فيما يخصّ التفاوض حول احتياجات النازحين. واللافت أنّ كثيرا من منظّمات الإغاثة السوريّة التى نشأت خلال الصراع ضمن مجتمع المقيمين، وهى ما توضع عليه اليوم صفة منظّمات المجتمع المدنيّ، باتت تتحوّل لشركات «تجاريّة» خاصّة تأقلما مع تغيّرات سبل المعونات الخارجيّة واحتمال إغلاق معبر باب الهوى للمساعدات العينيّة.
• • •
بالنتيجة تأسّس فى الشمال الغربيّ شرخٌ اجتماعيّ لا يقلّ حدّةً عن ذلك الذى أدّى إلى «الثورة»، أى إلى الانتفاضة الاجتماعيّة فى سوريا عام 2011. ولا يقلّ أيضا حدّةً عن ذلك الذى يشتدّ أكثر وأكثر فى المناطق التى تسيطر عليها «السلطة» فى سوريا. والوضع لا يختلف كثيرا عنه فى مناطق الشمال الشرقى رغم تواجد النفط أو عمّا يعيشه السوريوّن اللاجئون فى بعض دول الجوار. لكنّ هذا الشرخ الاجتماعى يترسّخ اليوم بين سوريين وسوريين ضمن ذات المناخ «الأيديولوجى» المفترَض.
وفى حين يُمكِن للسلطة فى دمشق أن تتحجّج بالعقوبات الاقتصاديّة كسببٍ للفقر وفقدان المواد الأساسيّة وكذلك بالأزمة فى لبنان، رغم أنّ الجميع فى مناطقها يعرِفُ أنّ سياسات التقشّف الشديد التى اعتمدتها الدولة والهيمنة على سبل الاقتصاد الممكنة هى التى فاقمت الفقر.. فقرا، وخلقت بالمقابل ثراءً فاحشا للبعض. لكنّ ما الحجّة فى الشمال السورىّ حيث تتدّفق المساعدات العينيّة والماديّة من الدول المانحة؟ وما حجّة هذه الدول المانحة وتركيا فى خلق هذا الشرخ وفى الاستمرار فى تمويل المنظّمات التى تصنّفها هى أصلا.. إرهابيّة؟
وفى الواقع، هناك «حوارات» تقام دوريّا حول الأوضاع الإنسانيّة السوريّة، وهناك حملات تجرى لجلب الدعم، تستخدم فيها مشاهد الفقر وغرق الخيم بسيول الأمطار ومعاناة النازحين من برد الشتاء. لكن قليلٌ ما تأتى هذه «الحوارات» على تداعيات الاقتصاد السياسى لما بات يتأسّس فى سوريا بعد تقسيمها إلى مناطق نفوذ وما سيأخذ إليه هذا المشهد. وغالبا ما يتمّ التغطية على أيّة محاولة نقاش من هذا النوع عبر حملات إعلاميّة قويّة عن ظلم «النظام» وإجرامه.. وكأنّه الظالم والمجرم الوحيد فى حربٍ أهليّة تمّ دفع جميع الأطراف السوريّة إليها.. بالوكالة.
• • •
بالطبع تتعمّق الشروخات بين مناطق النفوذ الثلاث التى تمّ إنشاؤها فى سوريا. لكنّ الشروخات الاجتماعية تتعمّق أيضا وربّما أكثر عُمقا ضمن كلٍّ من مناطق النفوذ هذه. ولا يجب أن يستهين أحد بالشروخات الاجتماعيّة، فهى التى تتسبّب بالاضطرابات الكبرى وبحركات التطرّف وهى التى تستغلّها القوى الخارجيّة فى صراعاتها بين بعضها البعض.
وذلك خاصّة فى الظروف الدوليّة الحاليّة التى تنتج عن الحرب فى أوكرانيا وإعادة تموضع الدول الإقليميّة فى الصراع الدوليّ الكبير الذى نشأ. انطلاقا من اعتبار أنّ الدول الأكبر، أى الولايات المتحدة وروسيا، قد فشلت فى سوريا، على الأقلّ فى هدفها المعلن الرئيس وهو القضاء على داعش والإرهاب. فها هى داعش تعود إلى نشاطها بقوّة. وداعش ليست سوى إحدى تداعيات شروخٍ اجتماعيّة. إيران وتركيا فشلتا أيضا، إذ أخذتهما إدارتهما لصراعهما بالوكالة فى سوريا إلى وضعٍ لا بدّ من الخروج منه أمام مخاطر التحوّلات الدوليّة الكبرى الجارية. ومن هنا ما نشهده من تغيّرات فى مواقفها. هذا عدا أن الفصائل التى دعمتها كلّ منهما دخلت فى تناقضات داخليّة لا يُمكن لها أيضا أن تستمرّ. والأمر سيّان بالنسبة لإسرائيل.
على الأغلب ستكون الحرب الأوكرانيّة طويلة كما أنّ الحرب الاقتصاديّة التى أخذت إليها ستظهر أكبر وأوسع فى تداعياتها. والعالم العربيّ برمّته واقعٌ فى أزمة، اقتصاديّة ومعيشيّة، وكذلك سياسيّة. من المغرب وحتّى العراق. وجذور الانفجارات الاجتماعيّة كثيرة. والسياسة العالميّة لم تعُد فى مناخٍ فيه الحدّ الأدنى من العقلانيّة كى يتمّ العمل على احتواء الصراعات.. كما تمّ احتواء الصراع السوريّ لحظة التدخّل الروسي ــ الأمريكى الكثيف فى 2015.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب