اللبن المُر - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:39 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللبن المُر

نشر فى : الخميس 1 يونيو 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 1 يونيو 2017 - 8:40 م
عنوان المقال تنويع على عنوان مسلسل شهير فى ستينيات القرن الماضى هو «العسل المُر» وكانت تدور قصته حول أم مصابة بخوف مرضى على ابنتها من الوقوع فى الحب فما كان منها إلا أن حبستها داخل جدران البيت، وقد لعبت الممثلة «زوزو شكيب» دور الأم بكل اقتدار حتى أنها نجحت فى أن تؤلب عليها مشاعر المشاهدين الذين أشفقوا على الابنة «شمس البارودى» من الجو الخانق الذى عاشت فيه نتيجة هواجس أمها ومخاوفها. لاحقا أخذت أعمال درامية أخرى عنوان المسلسل المصرى لكن ظل العسل المر فى طبعته المصرية هو الأكثر التصاقا بالذاكرة.
***
فى جعبة الناجين من ركاب أتوبيس المنيا الذى هاجمته حفنة من أسافل البشر يوم الجمعة الماضى توجد عشرات من القصص التى فصلت فيها إرادة الله بين كشوف الأحياء وقوائم الشهداء. بين هؤلاء الناجين ثلة من الأطفال حكوا تجربتهم المروعة لوسائل الإعلام، أمسك أحدهم بعلبة عصير راح يرتشف منها وهو يقص كيف تَصَنَع الموت كى يبعد عنه القتلة وأمامه الصليب المدلى من عنق أمه يقطر دما، وتشابكت أصابع أخرى وهى تروى كيف خبأتها أمها أسفل المقعد وتلقت عنها زخات الرصاص وكان آخر ذكرى تركتها لها أمها خيطا من الدماء. مشهد مجنون ذلك الذى يجلس فيه أطفال دون العاشرة من عمرهم على كرسى الاعتراف يدلون بشهادات لا تمت لعالم الطفولة بصلة، شهادات تتردد فيها بكثافة أفعال قبيحة من نوع قتلوا وسرقوا وأحرقوا وهشموا لكن ما العمل وتلك هى الأفعال الوحيدة التى تصف ما جرى، وكان التماسك الذى يبدو عليه الأطفال تماسك ظاهرى صنعته فلاشات الكاميرات وعلب العصير والهدايا من هنا وهناك، لكن عندما تنقطع طوابير المعزين سيكون لهم شأن آخر.
***
أما الشهادة التى لم يُدل بها الطفل موضوع هذا المقال فإنها الأكثر تأثيرا على الإطلاق، لم يُدل بها صاحبها لأنه مازال بعد دون سن النطق والكلام، أما حين يكبر وتحكى له أمه سيدرك أن رضعة لبن أنقذت حياته عشية أول أيام شهر رمضان. كانت الفوضى التامة قد عمت المكان، أصوات القتلة ترتفع من وراء اللثام تطلب الذهب والمال، طلقات الرصاص تحصد أرواحا كانت قبل قليل تسكن جسد الزوج أو الأخ أو الجار، قطع الزجاج المتناثرة على أرض الحافلة بدت كأشواك فى طريق الجناة تصرخ فى وجوههم أن قفوا ولا تتقدموا، وأنهار كثيرة من الدموع. على هذا المشهد الدامى تنبه وعى الأم وكانت غيّبتها المفاجأة، تملكها الخوف من أن يستيقظ طفلها فيصرخ ويفتضح أمرهما معا وساعتها، استعادت بصعوبة بعض ما تحفظه من مزامير ورددت فى سرها هذا المزمار «لأنه تعلق بى أنجيه، أرفعه لأنه عرف اسمى، يدعونى فأستجيب له»، وكررت «يدعونى فأستجيب له»، هدأت قليلا وأحست أن الفرج يقترب.
واتتها فكرة من وحى الموقف وشدته، أن ترضع طفلها كى لا ينبس أو يصرخ. لم تكن واثقة من جدوى فكرتها تلك فقد يفزٓع الصغير أو يزهد أو يتململ، لكن الله ستر. استكان الطفل فى حجر أمه فراحت تسكب فى فمه قطرات من لبنها الممزوج بالمرارة والخوف والقهر. إذا أخذنا خطوة للخلف وتخيلنا المشهد أظنه ما كان يمكن أن يدور بخلدنا أن تفكر الأم هذا التفكير، ولا أن تتصرف بهذه السرعة وتتحايل بفطرتها على خبث عتاة المجرمين، لكنها فعلتها. من قال المثل العامى الشهير «إذا جالك الطوفان حط ولدك تحت رجليك» لا يفقه شيئا على الإطلاق، فلم يكن هناك أعنف من هذا الطوفان لكن تضحية الأم بوليدها كانت هى المستحيل بعينه. موقف تجف له العروق لكن الله أجرى فى ثدى الأم خيطا رفيعا جدا من اللبن وإن يكن مُر المذاق يهدئ روع الصغير ويطمئنه إلى أنه فى حضن أمه وبين ذراعيها. هل حقا اطمأن الوليد فى حضنها وضربات قلبها تهوى فوق رأسه كالمطارق؟ هل هو هدأ فعلا وذراعا أمه المرتعشتان ترجفانه دون توقف؟ الوقت ليس للفذلكة والتردد فرصاص المجرمين أردى الجالسين فى مقدمة السيارة والآن جاء الدور على الصفوف الخلفية حيث تجلس الأم وابنها.
***
هذه الشهادة الدامية التى قرأتها فى مصدر وحيد لم تأخذ حقها من الاهتمام حتى حسَبْتَها من نسج الخيال، لكن من يدلنى على الواقعية فى أى من شهادات الأطفال على تفاصيل الجمعة الحزينة؟ هل كان يتصور أحد أن تحبس طفلة أنفاسها وهى محاصرة فى مخبئها بالدماء أو أن يُقنع طفل صغير ثلة من الخبراء المتمرسين على الذبح بأنه فارق الحياة؟ الموقف كله تجاوز العقل ولامس حد الجنون، قتل على الهوية وكأن التخلص من مائة أو ألف مسيحى يقطع دابر المسيحية من هذا الوطن، وسعيُ لاستنطاق المسيحيين الشهادة وكأن الخوف ينشئ دينا لكن ما نطقها الركاب، سلب ونهب لا يتطهران بوصف «غنيمة» ولا تغسل عارهما تورية لفظية مهما كانت بلاغتها.
***
يحتاج الناجون من فاجعة أوتوبيس المنيا والأطفال منهم بالذات إلى أن يُضمد الوطن جراحهم قبل أن يضمدها الأطباء، يحتاجون أن يروا عقيدتهم تُحترم وحقوقهم من أول الأمن الشخصى وحتى التقاضى العادل تُصان، فلا مُوَاطَنَة كاملة والحقوق ناقصة، لكن فى مصر مؤسسات ونخب لا ترى أن فى الأمر مشكلة، وهذا يحتاج مواجهة.
***
الكلمة الأخيرة هى لهذه المرأة التى أنقذت ابنها برضعة لبن مُر المذاق، هذه المرأة تشبه قصتها قصة الأم فى مسلسل «العسل المُر» فكل منهما جرعت ابنتها أو ابنها مُر الشراب من باب الحماية، لكن فيما كانت الحماية من الحب فى زمن الستينيات فإنها صارت من الحقد الأسود فى زمن داعش.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات