نشر مركز بروكنجز مقالا للباحثين «عادل عبدالغفار» و«ماتيا توالدو» يتحدثان فيه عن السبيل لتحقيق الاستقرار فى ليبيا ودور مصر تحديدا فى ذلك، نظرا لما تشكله مكانتها ولما تشكله ليبيا بأزماتها من تهديد للخط الحدودى الغربى للقاهرة. يبدأ الباحثان المقال بما ورد عن ليبيا فى نشرات الأخبار أخيرا، حيث تكرر ذكرها على اثر اتهام ليبيين بتنفيذ تفجير مانشستر، إضافة للهجوم الذى وقع فى مايو ضد مسيحيين فى المنيا، جنوب القاهرة، والذى أشارت الحكومة المصرية إلى أنه قد نفذه مقاتلون تدربوا فى ليبيا، وأمرت بتنفيذ ضربات جوية انتقامية ضد مخيمات للتدريب هناك. وفى الوقت نفسه، أسفر القتال الأخير بين الميليشيات المتناحرة فى العاصمة الليبية طرابلس عن مصرع العشرات. كما تترك حالة عدم الاستقرار والصراعات المستمرة فى البلد تداعيات محلية وإقليمية ودولية.
فيقول الباحثان إن العديد من العواصم الغربية تعتبر مصر عنصرا أساسيا للحل الدبلوماسى فى ليبيا. ولكن فى الوقت الذى قد تقدم فيه مصر وكلاءها الليبيين، سيكون من الصعب على الأمم المتحدة المساواة بينهم وبين أولئك الذين دعموا وساطتها منذ البداية، والذين تعتبرهم القاهرة إسلاميين إلى حد كبير.
بعد مرور عام ونصف العام على توقيع الاتفاق السياسى الليبى برعاية الأمم المتحدة فى مدينة الصخيرات المغربية، أصبحت العملية السياسية فى ليبيا بحاجة إلى تحديث. فقد سعى الاتفاق السياسى الليبى إلى إنشاء حكومة وحدة وطنية لكل ليبيا ــ وها نحن بعد خمس سنوات من الصراع الذى تلى سقوط القذافى، نرى ثلاث حكومات تتنافس على السيطرة. أولا، حكومة الوفاق الوطنى المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولى فى طرابلس، بزعامة رئيس الوزراء فايز السراج، والتى أثبتت قدرا كبيرا من عدم الفاعلية حتى الآن. وفى الشرق هناك مجلس النواب الداعم لرجله القوى المشير خليفة حفتر، الذى لم يعترف أبدا بالاتفاق السياسى الليبى، فى حين ما تزال الحكومة المؤقتة التى يرأسها عبدالله الثنى تمارس عملها فى هذا الجزء من البلاد. وأخيرا هناك حكومة ثالثة مقرها طرابلس هى حكومة الإنقاذ الوطنى، والتى تمثل الميليشيات الأكثر راديكالية ضد نظام القذافى، وموالية لمفتى البلاد.
دأبت مصر ودولة الإمارات على دعم حفتر سياسيا وماديا منذ بداية الصراع. ورغم عدم قناعة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بالمشير، إلا أنهما أقرتا أخيرا خلال العام الماضى أنه بسبب ذلك الدعم، يجب أن يكون حفتر جزءا من الحل، وإلا فلن يكون هناك حل. وبصورة شبه حتمية، كانتا تعتبران مصر الدولة التى تستطيع ــ بالتعاون مع داعميها الإماراتيين ــ تقديم حفتر.
بالتزامن مع تراجع مهمة الأمم المتحدة فى ليبيا، اكتسبت الدبلوماسية المصرية ــ وفقا لتحليل الباحثين ــ زخما أصبح العديد من العواصم الغربية تعتبره المفتاح لاتفاق جديد. وبالإضافة إلى دبلوماسية القوة الناعمة، أظهرت مصر أن القوة الصلبة مطروحة هى الأخرى على الطاولة وبقوة. فالموجة الثانية من الضربات الجوية ضد المسلحين، بغض النظر عما إذا كانوا متورطين فى هجوم المنيا أم لا، هى بمثابة تصعيد فى مشاركة الجيش المصرى، التى باتت واضحة جدا فى ليبيا.
إذا اعتبرنا تدخل مصر فى ليبيا أمرا أساسيا، فالعكس أيضا صحيح. إذ إن ليبيا لها دور محورى فى مصالح مصر الأمنية والاقتصادية. وقد ذكر الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى فى كلمته الأخيرة التى ألقاها فى الرياض أن تفكك مؤسسات الدولة قد أفاد المنظمات الإرهابية، وأن مصر تؤيد كليا الجهود الرامية للحفاظ على وحدة دول المنطقة وسيادتها ووحدة أراضيها. يمكن القول إن ليبيا تشغل باله بشدة وإن القاهرة تعمل جاهدة لتحقيق نتائج مثمرة. لكن هل تمر طريق الاستقرار فى ليبيا عبر القاهرة؟
فبالنسبة لأهمية ليبيا لمصر أشار المقال لتصريحات السيسى الخاصة بمصالح مصر الأمنية والاقتصادية والأيديولوجية فى ليبيا. فعلى الجانب الأمنى، تسعى مصر لتجنب تفتيت الدولة الليبية ولمحاربة العناصر المتطرفة هناك، بما فى ذلك العناصر التابعة لتنظيمى القاعدة وداعش. تعانى حدود مصر الطويلة مع ليبيا منذ العام 2011 بمرور الأسلحة والمسلحين والمخدرات فيها جيئة وذهابا. وفيما تحارب مصر مجموعات مصرية تابعة لداعش فى شرق البلاد، إلا أن استقرار حدودها الغربية وأمنها أمرٌ فى غاية الأهمية. أما بالنسبة للجانب الاقتصادى، فهناك نحو 750.000 مصرى يعيشون ويعملون فى ليبيا. ورغم أن هذا الرقم قد تراجع كثيرا عن المليونى مصرى الذين كانوا يقيمون فى ليبيا قبل إسقاط نظام القذافى، إلا أنه لا يزال رقما كبيرا. كما تخطط شركات النفط المصرية إلى استئناف عملياتها فى ليبيا، بما فى ذلك استيراد المركبات الهيدروكربونية على نطاق واسع. الدافع الثالث للقاهرة هو الجانب الأيديولوجى، فبعد الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين فى مصر العام 2013 أعلنت القاهرة جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وهدفت إلى قمع حركتهم فى ليبيا أيضا. وتخشى القاهرة، إذا ما وجد الإخوان المسلمون وغيرهم من المجموعات الإرهابية موطئ قدم قوى لهم فى ليبيا، أن تصبح ليبيا ملاذا آمنا لإخوان مصر (كما هو الحال فى تركيا وقطر).
أما عن حفتر والذى تقدم للصدارة من خلال شنه حربا على الإسلاميين على تنوع أشكالهم فى شرق ليبيا. وبسبب التوافق الأيديولوجى، راهنت مصر ودولة الإمارات عليه وعلى الجيش الوطنى الليبى التابع له. كما يوفر حفتر إمكانية تحقيق الاستقرار إلى حد ما، لذا لم يكن أمام القاهرة خيار أفضل من دعمه رغم سأمها من عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته.
بفضل الدعمين المصرى والإماراتى، تحسنت حظوظ حفتر العسكرية فى العام 2016. إذ سيطر الجيش الوطنى الليبى على معظم بنغازى، وأحرز تقدما فى منطقة الهلال النفطى، وهى منطقة حيوية غنية بالموارد تقع إلى الشرق من سرت. وقد حاولت مصر الاستفادة من هذا التوازن الجديد فى القوى من خلال الدبلوماسية وذلك بعقد اجتماع مع أعضاء من مجلس النواب الليبى فى ديسمبر 2016. تضمن «إعلان القاهرة» الذى نتج عن الاجتماع العناصر الرئيسية لما يمكن أن يصبح قريبا خارطة طريق لليبيا مؤيدة من قبل الأمم المتحدة. طالب الإعلان بالحصول على تفويض من مجلس النواب ومن المجلس الأعلى للدولة، ومقره طرابلس، للموافقة على تقليص عدد أعضاء مجلس الرئاسة من تسعة إلى ثلاثة، وتسريع الموافقة على دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية فى أوائل العام 2018.
من جانبه، رفض حفتر الجلوس مع السراج فى القاهرة فى فبراير 2017، رغم الضغط الكبير الذى مارسه الجانب المصرى. لكن فى 2 مايو حدث ما سُمى بتقدم مهم حين التقى الرجلان فى أبوظبى. وقد أشادت مصر ودولة الإمارات بهذا اللقاء واعتبرته دليلا على قرب التوصل إلى اتفاق جديد. ويرغب الكثيرون فى العواصم الغربية بتصديق ذلك أيضا.
مع ذلك ففى الوقت الذى أثار فيه اجتماع حفتر والسراج آمالا كبيرة على الصعيد الدولى، فقد ظهرت ردود فعل متباينة تجاهه فى ليبيا. فميليشيات مدينة مصراتة، التى تعتبر الداعم الرئيسى للسراج، والتى حاربت داعش فى الماضى، منقسمة الآن. ينحاز البعض بشكلٍ متزايد إلى حكومة الإنقاذ الوطنى الخصمة فى طرابلس، وهى ائتلاف مكون من متطرفين مدعومين من المفتى الغريانى. ومن الواضح الآن أن هذا الائتلاف سوف يعارض أى تقدم يقوم به السراج فى حواره مع حفتر، الأمر الذى يهدد توازن القوى الهش فى طرابلس.
بالنسبة لجميع القوى تقريبا المتواجدة فى غرب ليبيا، حيث تعيش غالبية الليبيين، هناك خطان أحمران فى المحادثات الحالية. الأول، وهو أن الجيش يجب أن يكون تحت إشراف مدنى، إذ لا يمكن للجيش أن يتألف فقط من الجيش الوطنى الليبى التابع لحفتر. والثانى، وأقل وضوحا، وهو أن الاتفاق يجب أن يتضمن أيضا قوى يعتبرها حفتر والمصريون «من تيار الإسلام السياسى». ومن غير المرجح أن يُفلح الضغط الدولى على طرابلس ومصراتة فى إزالة هذين الخطين الأحمرين.
أما مهمة سبر هذا الحقل من الألغام فمتروكة للأمم المتحدة. إذ مهدت مصر الطريق أمام مبادرة دبلوماسية جديدة، لكن يجب على الأمم المتحدة الآن أن تحول هذه المبادرة إلى عامل استقرار وليس إلى محفز صراع جديد فى النصف الغربى الآمن نسبيا من ليبيا. ويكمن التحدى فى إشراك حفتر من دون فقدان غالبية مصراتة وطرابلس.
يختتم الباحثان بأن طريق الاستقرار فى ليبيا تمر عبر القاهرة بالفعل، ولكن أيضا عبر نيويورك وبروكسل وأبوظبى وواشنطن وموسكو ــ والأهم هو أنها تمر عبر طرابلس ومصراتة. من المهم جدا تحقيق تسوية إقليمية ودولية من أجل الاستقرار لكن التسوية الليبية هى الأهم. فمع أن الاجتماع فى أبوظبى أثار آمالا نحو الانفراج فى عدد من العواصم الغربية، إلا أن نجاح الوساطة المصرية (والإماراتية) غير محتمل، ما لم تكن هاتان الدولتان ووكيلهما الليبى خليفة حفتر جاهزين لتسوية حقيقية. وهذه التسوية يجب أن تشمل قضايا حساسة مثل إشراك جميع العناصر الفاعلة فى الإطار السياسى والإشراف المدنى على الجيش. إذا تم التغاضى عن هذه الأمور فستستمر الاضطرابات، بل ربما تتصاعد وتكون جزءا دائما من المشهد الليبى.
النص الأصلى: