دخلت الثورة المصرية مرحلة كسر العظام، مرحلة كان يمكن تفاديها لو أن القوى المتصارعة على السلطة آمنت حقا بأهداف الثورة وعملت على تحقيقها.
●●●
كان بيننا الواثقون من أن تجاهل القوى الحاكمة ومؤسسات الدولة لرغبات الشعب المصرى، وبخاصة الرغبة فى التغيير، سوف يؤدى حتما إلى تعقيد مسيرة الثورة. كان المطلوب فى ثورة عبرت بسمعتها ورقى أهدافها حدود مصر أن يحدث تغيير فى كل مؤسسات الدولة وبخاصة تلك التى قاومت إدخال إصلاحات متدرجة عبر عشرات السنين.
افترضنا أن قادة مختلف أطراف الساحة السياسية فى مصر سيتولون بأنفسهم الدعوة إلى إصلاح أحزابهم وجماعاتهم ومؤسساتهم، ففى هذا الإصلاح قوة مضافة وتجديد للدماء والعقول فضلا عن أنه مطلب شعبى. افترضنا أيضا أنه ما أن يبدأ الإصلاح الجزئى فى كل بقعة وكيان وتنظيم على الأرض المصرية حتى نرى روحا جديدة تقود مختلف التيارات السياسية والاجتماعية نحو توافق عام وتضع آليات تمنع العودة إلى الخلاف والصدام.
●●●
لم يقع الإصلاح المرجو، أو على الأقل لم نتبلغ من الجهات المسئولة فى تلك المؤسسات أنه وقع أو واقع لا محالة. الآن تأكدنا بأنفسنا أنه لم يقع. لذلك بدأ يتسرب الشك لدى الناس فى النوايا الحقيقية لبعض قادة القرار وصناع الرأى حول مسألة التزام هؤلاء بالثورة.
فى غياب هذا الالتزام وقع الصدام وبوقوعه تعقدت مسيرة الثورة لأجل غير مسمى. وتبينا بوضوح أن لا أحد من أطراف الصراع على السلطة أدخل تغييرات أو إصلاحات جذرية على هياكله الموروثة وعلى منظومة فكره، رغم الإدراك بأنها لم تعد تصلح للتعامل مع منظومات فكرية عالمية متقدمة. تصور البعض منا خلال مرحلة وجيزة، أن التفاهم الذى حدث بين المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين، كان يمكن أن يمثل خطوة البداية نحو الالتفات إلى هموم الإصلاح الداخلى فى كل منهما. تصورنا أن الطرفين يستعدان، مدفوعان بروح الثورة، للمشاركة فى بناء دولة عصرية. كان تصورا زائفا، وأنا أحد النادمين على القبول به أو مسايرة أصحابه، ولو لأسابيع قليلة. بل إننا، وبحماسة لا يجوز أن يستدرج إليها ذوو التجارب، تصورنا أن كثيرا من الليبراليين المصريين سوف يحالفهم النجاح لا محالة فى نزع البقايا «اللاليبرالية» التى عششت فى أساليب تفكيرهم وشوهت علاقاتهم وهيمنت على نظرتهم إلى السلطة. تصورنا، بمعنى آخر، أن أحزاب وقوى الأمس ستصلح نفسها بنفسها وتتخلص من نفوذ السلطة المهيمنة وإغراءاتها ومن سطوة المصالح الفردية، لتشارك فى إقامة نظام حزبى جديد، يليق بسمعة الليبرالية الحقة وبأهداف ثورة لم تبتعد أهدافها كثيرا عن شعارات الليبراليين وأحلامهم.
●●●
نذكر كيف توصل الطرفان الأقوى فى الساحة السياسية إلى تفاهم. كان أمل المتفائلين فى مصير التفاهم أن تتوصل جماعة الإخوان إلى اقناع المصريين عموما، وليس فقط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، بأنها جادة فى الإصلاح الداخلى، وفى التحول من جماعة بهياكل وأساليب إدارة وتوجيه شبه عسكرية، إلى حزب سياسى عصرى، أبوابه مفتوحة ليدخل إليه من يريد أن يدخل ويخرج منه من يريد أن يخرج، بدون قيود أو شروط أو جزاءات. كان الأمل أيضا ان تثبت الجماعة أنها «كحكومة» قادرة على أن تمارس بنية صادقة شيئا من الديمقراطية وتوسع فرص المشاركة أمام كافة الأطراف. وكان الأمل ان تساهم الجماعة فى نشر الوعى بأن صندوق الانتخابات ليس المنتهى فى الديمقراطية، وأنه ليس أكثر من «فاتحة» تتلوها أفعال كثيرة أهم بكثير من الأصوات التى جمعها أيا كان عددها. وللأسف لم تحقق حكومة الإخوان أى من هذه الآمال. وبهذا الفشل افسحت المجال للمؤسسة العسكرية لتعود إلى الساحة السياسية طرفا مهيمنا وفاعلا، رغم أنها قد لا تكون بالضرورة راغبة، وأنها تدرك أن قوى دولية ستحاول التصدى لهذه الرغبة.
●●●
الصدام مستمر رغم الرفض المتزايد له، ورغم الضغط الأجنبى. وفى الوقت نفسه طموح الثوار مستمر رغم خيبات الأمل المتعاقبة. أظن، بل أثق فى أن الشباب ما زالوا متمسكين بإرادة التغيير وحريصين على تفعيله. وأعتقد أن أكثر العناصر الشابة فى هذا التنظيم أو ذاك يريد أن يرى تغييرا فى قياداته وأفكاره وأساليب عمله، إن لم يكن تحت تأثير الثورة المصرية المستمرة منذ أكثر من عامين فعلى الأقل بتأثير من ثورة شباب عالمية ممتدة من جنوب أوروبا ومنتهية فى أمريكا اللاتينية. يكفى أن رجلا فى مكانة وحكمة بابا الفاتيكان لمس الشيء نفسه وانفعل به خلال زيارته للبرازيل فى زمن الثورة فصار يؤكد أن «الشباب فى كل مكان يريدون أن يصنعوا التغيير»، وينصحهم بأن «لا تبقوا على مشارف الحياة». شعر الرجل بأهمية دور الشباب وهو يراقب غليانا فى ثورية لم يمر عليها أكثر من أسابيع قليلة، فما بالنا بثورة مصرية مستمرة منذ يناير 2011.
●●●
لن تهدأ الثورة حتى يعى قادة الإخوان المسلمين الدرس الأخير، درس الفشل فى الحكم بسبب قلة الخبرة وخلط الدين بالسياسة وتمكين جماعة شبه عسكرية لتدير حوارا ديمقراطيا. عندئذ سوف يقررون أن يتحولوا إلى حزب سياسى مفتوحة أبوابه ونوافذه للداخلين والخارجين. ولن تهدأ الثورة حتى يقتنع طرفا الصدام الرئيسى أنهما طالما لم يصلحا هياكلهما وأساليبهما ونظرتهما إلى المجتمع ودورهما فيه فلن «يحكما» لو عادا إلى السلطة بالصندوق أو بالتفويض أو بغيرهما. لن يحكما ولن يتحكما، فالشعب فى غالبيته العظمى، وبخاصة فى شبابه، تغير ولن يعود إلى الوراء.