توقف الباص أمام الكنيسة الإنجيلية بمدينة الإسماعيلية فترجلتُ ووفدُ المجلس القومى لحقوق الإنسان ودلفنا من البوابة الحديدية. مبنى متوسط الحجم تحيطه بعض الأشجار، جميلة هى أشجار الاسماعيلية وداكنة هى خضرتها. بطول السور فى الداخل كانت تمتد مائدة عليها أكواب ورقية وملاعق وكل مستلزمات صنع الشاى، أما اللبن فلا فنحن الآن فى ظل الصيام الكبير الذى يفصلنا بعدة أسابيع عن الاحتفال بعيد القيامة المجيد، قطع قديمة من أثاث متواضع مختلفة ألوانه تبدو هناك بعيدة فى الزاوية.. سألت: هل هذا أثاثكم حملتوه معكم؟ فأُجِبت بل هو أثاث قدمته لنا الكنيسة فلم نحمل معنا أى شيء بالمرة، أحسست بغصة فى حلقى ورحت أدير النظر فى المكان. رجال ونساء يجلسون هنا وهناك يعرفونك بأنفسهم قائلين أم الشهيد فلان أو خال الشهيد فلان وكأن استشهاد هذا العزيز أو ذاك يجُبُّ ما قبله أو كأن تاريخ مولدهم هو نفسه تاريخ زفاف أحبتهم إلى الفردوس الأعلى، يلفتنى النشاط البالغ لشاب ثلاثينى مبتسم فابتسامته تبدو كأنها جملة اعتراضية فى أجواء يسيطر عليها الغضب والحزن والشعور بالانكسار، ويأخذنى حديثه إلى مساحة تفاؤل حين يقول: لن أترك «لهم» العريش، لن أترك بيتى وأرضى.. جئت بأسرتى الصغيرة إلى هنا لتأمينها أما أنا فسوف أعود إلى هناك. بالتأكيد أحببت تصميم هذا الشاب وأن تكون رحلته للاسماعيلية رايح جاى، لكنى تفهمت تماما مخاوف الآخرين من عودة غير آمنة.
***
قالت لى سيدة فى منتصف العمر: فى البداية كانوا يهاجمون محالنا أما الآن فإنهم يصعدون إلى منازلنا ولا يكتفون بقتلنا بل يشعلون فينا النار، فبأى عين يمكننى أنا أو غيرى أن نطلب ممن ترجو «قتلا» رحيما أن تعود من حيث أتت؟ السؤال عن العودة فى جملته وفِى هذا التوقيت المبكر يبدو مؤلمًا وربما حتى غير إنسانى. ننتبه على صوت ضجيج يصاحب وصول أسرة جديدة تنضم للأسر الموجودة فى الكنيسة، يدخل إلى قاعة الاستقبال رجل مسن بالغ النحافة يبدو عليه بشدة تعب السفر ويكرر عدة مرات فيما يشبه الهذيان: مستعد أصلى الفجر، لمدة ثوان يختلط عليك أمر الرجل ثم تتبين أنه يقصد أنه مستعد أن يفعل أى شيء فى مقابل الأمان، ينخلع القلب.. لا يا سيدى أبدا لن تُصٓلِ إلا أمام مذبحك ولن تُمارس إلا شعائر دينك وستبقى كما اعتدت ترشم صليبك، وددتُ من أعماقى لو أهدئ روع الرجل لكن المشاعر كانت مسنونة كالرماح، دعتنا خادمة الكنيسة لمبارحة القاعة فانصعنا.
***
فى بيت الشباب الدولى المطل على قناة السويس كانت الأعداد أكبر لكن المكان بحكم طبيعته كان أكثر تجهيزا. عرايشية من كل الطبقات الاجتماعية، منهم من انتقل للعريش من القنطرة شرق بعد 1967 أو من مسقط رأسه فى صعيد مصر ومنهم من ولد فيها ولا يعرف له وطنا سواها، ومن هؤلاء كان عم فلان. فراش فى إحدى مدارس العريش قضى عمره كله هناك، كوّن أسرة وصار له أحفاد ولم يدر بباله قط أنه سيغادر موطنه إلى المجهول، تقترب منه إحدى المتطوعات فى جمعية أهلية قائلة: انظر للسماء وقل يارب أنا قطعة شطرنج بين يديك وسوف يأتيك الفرج. تعبيرها هو الأرقى فى تجسيد معنى التسليم الكامل لإرادة الله، جوهر الأديان واحد لكن تفسيراتها شتى. تسمح المساحة المفتوحة للأطفال بالانطلاق فيتسابقون ويتضاحكون ويعيشون عمرهم بعد طول كبت وترويع. من إحدى الكراتين يطل كتاب سلاح التلميذ ينبهنا إلى أن هناك عاما دراسيا يفصلنا عن نهايته شهران، وتكشف الأجولة الشفافة عن بعض مستلزمات الإعاشة مثل المعلبات وأكياس الأرز والسكر، المجتمع المدنى حاضر بقوة هنا وفِى كل مكان زرناه، والدعوات على وسائل التواصل الاجتماعى التى تحدد احتياجات المُهٓجرين تلقى استجابات واسعة وسريعة، هكذا نعثر على نقطة ضوء فى مشهد معتم تنبهنا إلى أننا مازلنا نحس ببعضنا البعض وأننا نحمل فى چيناتنا بعض ما كان يميز مصر أيام زمان. تسمع كلاما مثيرا عن المصالح المتشابكة بين الإرهابيين وتجار السلاح والمخدرات، وتسمع كلاما جديرا بالاهتمام عما فعلته التدابير الأمنية بأرزاق الناس وبحريات الناس فى التنقل والحركة وعن توظيف الإرهابيين مشاعر الضيق والتبرم لخدمة مآربها الإجرامية، مثل هذا الكلام يهدى المسئولين بعض المفاتيح الممكنة لإعادة التفكير فى سبل تأمين مدينة العريش واسترداد الدولة ظهيرها الشعبى فليتنا نجربها. يدخل الأنبا موسى أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذوكسية، وتبدو بعض رموز الدولة حاضرة فى المكان ما يجعله أشبه بخلية نحل. أتمنى أن يستمر هذا الاهتمام لحين تيسير كل ظروف الإقامة المؤقتة، والأهم أن يُفك الارتباط بين هذا الاهتمام وبين صورتنا فى الخارج فسلامتنا الداخلية هى مربط الفرس.
***
عند مدخل كنيسة الأنبا أنطونيوس للمستقبل يستقبلنا الكاهن مرحِّبا ويدعونا لتناول الغداء معه فنعتذر بلطف، هذه الكنيسة مثلها مثل الكنيسة الإنجيلية تستقبل الأسر المسيحية وتقوم بتوزيعها وتزويدها بالمستلزمات الأساسية لفتح بيوت كريمة لفترة قصيرة. وهنا وفى كل مكان زرناه ستجد من يحدثك عن قوائم القتل، لا بل ستجد أيضا من يعرف موقعه هو وابنه على القائمة فتتذكر فيلم أمير الانتقام وتكتشف أن الواقع أحيانا قد يكون أبشع بكثير من الدراما والخيال، كما ستجد من يحكى لك تفاصيل التفاصيل عن مسلسل قتل المسيحيين منذ بدأ بعد ثورة يناير وحتى تسارع مع بداية 2017، وعندما تضع أسماء الشهداء الواحد منها بجوار الآخر ستجد ألا رابط بينها فهى قد تكون لكاهن أو لطبيب بيطرى أو لسباك أو لتاجر أحذية، فطالما سقطت حرمة الدماء يكون من العبث التفتيش فى الأسباب. حدثتنى راهبة طيبة أعطتنى بشاشتها الإحساس بأننى أعرفها من زمان عن الجهد الذى يحتاجه أهالى الشهداء لدعمهم نفسيا والذى تسهم فيه الكنيسة على قدر طاقتها، وأظن هذا يعد مجالا واسعا يمكن أن يخدم فيه أيضا المجتمع المدنى.
***
ليست المرة الأولى التى تفتح فيها مدينة الاسماعيلية ذراعيها لتحتضن أهالى سيناء بكل الحفاوة والترحاب بل إن كهنة كنيسة مار جرجس بالعريش التى أضرم الإرهابيون فيها النار فى أغسطس 2013 قد نزحوا إلى الاسماعيلية لفترة قصيرة لعلها شهران ثم عادوا إلى موطنهم وفيما بعد أعيد بناء كنيستهم، وكم أتمنى أن يتكرر هذا الآن وأن تكون هناك بطاقة عودة من الاسماعيلية للعريش بيد كل أهلنا من المسيحيين الذين هُجّروا رغما عنهم، فمصر تزهو بأن مسيحييها كما مسلميها يتوزعون على كل شبر من أرضها وسنقاوم بكل ما أوتينا من قوة حتى نبقى كذلك.