أتم الرئيس الأمريكى الأسبق، جيمى كارتر، عامه المائة فى يوم الثلاثاء الموافق الأول من أكتوبر 2024، وهو أول شخص فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية شغل مقعد الرئاسة وأكمل عامه المائة، بينما كانت زوجته السيدة روزالين قد وافتها المنية فى التاسع عشر من شهر نوفمبر من عام 2023 عن عمر يناهز السادسة والتسعين عاما.
للرئيس جيمى كارتر على مدى القرن الذى عاشه محطات كثيرة هامة، ولكنها لا تقتصر على الفترة التى قضاها رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه بالرغم من أنه قضى فترة رئاسية واحدة ما بين يناير 1977 ويناير 1981 ــ كرئيس جاء أصلا مرشحا عن الحزب الديمقراطى الأمريكى وخسر عندما رشحه حزبه لفترة ولاية رئاسية ثانية أمام المرشح الجمهورى آنذاك رونالد ريجان ــ فإن عمله ونشاطه فى المجال العام بعد تركه مقعد الرئاسة الأمريكية كان شديد الثراء والتنوع والحيوية حتى سنوات قليلة مضت.
فقد شهدت فترة الولاية الرئاسية لجيمى كارتر أحداثا تاريخية، كان له دور هام، بل ومحورى فى الكثير منها، وسوف يظل بعضها باقيا فى ذاكرة الشعب الأمريكى وذاكرة العالم بأسره لعقود، بل قرون، قادمة، أيا كان تقييم كل مشاهد لمدى إيجابية أو سلبية تلك الأحداث.
• • •
ربما كان من أهم ما علق بأذهاننا نحن فى منطقة الشرق الأوسط دور الرئيس كارتر فى التوصل إلى الاتفاق الإطارى بين الرئيس المصرى الراحل، أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل، مناحيم بيجين، فى منتجع كامب دافيد الرئاسى الأمريكى فى اليوم السابع عشر من شهر سبتمبر من عام 1978 حول السلام بين مصر وإسرائيل وبين إسرائيل والشعب الفلسطينى، وهو أمر يسطر فى التاريخ الأمريكى للرؤساء السابقين باعتباره إنجازا تاريخيا حققته الإدارة الأمريكية آنذاك، أيا كان الرأى فى هذا الاتفاق الإطارى. فتاريخيا، ومنذ نشأة الصراع على أرض فلسطين التاريخية، خاصة بعد إصدار بريطانيا وعد بلفور بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين فى يوم الثانى من شهر نوفمبر من عام 1917، كانت هذه، من الناحية الفعلية، هى أول مرة يوضع فيها تصور لإنهاء هذا الصراع على الورق، ويتم التوقيع فيه بين إسرائيل وطرف عربى رئيسى فى هذا الصراع، وهو مصر، على اتفاق يمهد لإنهاء الصراع بينهما ويضع أيضا أسسا لتسوية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، حتى مع عدم معالجة هذا الاتفاق الإطارى لمسألة تسوية الصراع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى آنذاك، خاصة ما كان يعرف بـ«دول المواجهة العربية»، أى تلك التى لها حدود مباشرة مع إسرائيل ولها أراضٍ محتلة من قبل إسرائيل.
إلا أن هناك تطورا آخر ضخما حدث فى منطقتنا خلال الولاية الرئاسية لجيمى كارتر، ويعتبر من وجهة النظر الأمريكية مما يحسب على كارتر وليس له بخلاف الحال أمريكيا مع اتفاقيات كامب دافيد بين مصر وإسرائيل والتى سبقت الإشارة إليها، وهو انتصار الثورة فى إيران فى فبراير 1979 والإطاحة بآخر حكام أسرة بهلوى وهو الشاه محمد رضا بهلوى، الذى كان يعتبر حليفا أساسيا واستراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية فى منطقة غرب آسيا والخليج العربى، وما تلا ذلك من قطع للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة وتحول العلاقة إلى مرحلة عداء وقطيعة استمرت حتى الآن، بالرغم مما تخلل تلك الفترة الزمنية من محاولات هنا وهناك لرأب الصدع فى العلاقات بين الدولتين، ثم تلا انتصار الثورة الإيرانية بشهور قليلة حادث احتجاز عدد من الطلاب الإيرانيين الموالين للثورة لرهائن أمريكيين داخل السفارة الأمريكية فى طهران وهى العملية التى بدأت يوم الرابع من شهر نوفمبر من عام 1979 ولم يتم حلها سوى قبل سويعات من تسلم الرئيس الجمهورى المنتخب، رونالد ريجان، مقاليد السلطة فى البيت الأبيض فى يوم العشرين من شهر يناير من عام 1981.
هذا الحدث الأخير الخاص باحتجاز الرهائن الأمريكيين طوال تلك المدة داخل السفارة الأمريكية فى طهران كان له تأثير كبير بالسلب على شعبية الرئيس كارتر داخل الولايات المتحدة الأمريكية لأنه سبب شعورا عاما بالمهانة لدى قطاعات عريضة من الشعب الأمريكى، وبعجز دولتهم العظمى عن حماية دبلوماسييها بالخارج، بالإضافة إلى تضاعف هذا الشعور عقب الفشل الذريع الذى منيت به محاولة لإنقاذ هؤلاء الرهائن أمر بها الرئيس كارتر فى اليوم الرابع والعشرين من شهر إبريل من عام 1980، وزاد فشلها من الـتأثير السلبى على شعبية الرئيس كارتر فى ذلك الوقت، وكان لكل تلك الأحداث دور كبير فى هزيمته فى انتخابات محاولته الفوز بولاية ثانية التى جرت فى يوم الخامس من شهر نوفمبر من عام 1981.
• • •
على المستوى الفكرى، يذكر للرئيس كارتر أنه حاول إدماج بعض العناصر التى استقاها من فهمه لتعاليم الديانة المسيحية فى أسلوب حكمه بشكل إيجابى، فكان حريصا مثلا على إبراز أهمية الصدق فى التعامل مع الآخرين، سواء فى الداخل الأمريكى أو على صعيد العلاقات الدولية وإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية فى عهده، ويرجع ذلك لتربيته المسيحية والتزامه الأخلاقى بتعاليم ديانته، وهو أمر مختلف تماما بالطبع عما بدأ يتصاعد فى عهد خلفه الرئيس الجمهوري، رونالد ريجان، من ظهور وبروز قوة اليمين الدينى فى المعادلة السياسية الأمريكية، وهو متغير ظل معنا حتى الآن، ولعب أدوارا فى اتجاهات معاكسة تماما للفهم الأخلاقى والمتسامح الذى حمله الرئيس كارتر لتعاليم الديانة المسيحية.
• • •
عقب تركه سدة الحكم بسنوات ظل الرئيس كارتر يلعب دورا مؤثرا داخل الولايات المتحدة وخارجها للدعوة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاصرة وإضعاف، ومن ثم إسقاط، نظام الفصل العنصرى (الأبارتيد) الذى كان سائدا وحاكما فى جنوب إفريقيا حتى تحقق هذا الهدف فى نهاية المطاف فى عام 1994، وكان لهذا الدور التاريخى والهام لجيمى كارتر تأثير فى نشأة صلة قوية بينه وبين الزعيم الجنوب إفريقى الأسطورى نيلسون مانديلا، وهو الأمر الذى دفع الاثنين معا، وعقب انتهاء فترة ولاية مانديلا كأول رئيس لجنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الأبارتيد، إلى إنشاء «لجنة الحكماء» التى ضمت أيضا شخصيات بارزة من رؤساء ورؤساء حكومات سابقين فى العالم، وكان من أعضائها السياسى والدبلوماسى الجزائرى والعربى والدولى المخضرم السفير/الأخضر الإبراهيمى، وكذلك كوفى عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة.
وخلال عامى 2012 و2013 أتيحت لى فرص اللقاء المتكرر مع الرئيس الأمريكى الأسبق، جيمى كارتر، حيث كان قد قام، فى إطار عمل «لجنة الحكماء»، بعدة زيارات خلال تلك الفترة لكل من إسرائيل والأراضى الفلسطينية، ومعه فريق مساعد له قام بتصوير كامل للوقائع على الأرض فيما يخص الربط الإسرائيلى بين أراضى إسرائيل عام 1948 وبين الضفة الغربية، وقد خلص كارتر من خلال تلك الزيارات إلى أن حكومة إسرائيل تجعل بشكل متزايد حل الدولتين مستحيلا بين إسرائيل والفلسطينيين، بالرغم من التأييد الدولى الواسع لتلك الصيغة على الصعيد الدولى، بما فى ذلك من الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إعلان الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش فى يونيو من عام 2002 تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لحل الدولتين كتسوية نهائية للصراع بين إسرائيل والشعب والفلسطينى، وذلك بسبب التوسع فى سياسة الاستيطان الإسرائيلية من جهة وبسبب الشبكة المتقدمة والمعقدة من الطرق العلوية والدائرية والمحاور والكبارى والأنفاق التى أنشأتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتربط بين أراضى إسرائيل طبقا لحدود 1948 وبين المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية لنهر الأردن، وهو الأمر الذى حول المدن والقرى الفلسطينية فى الضفة الغربية من وجهة نظر الرئيس كارتر إلى ما يشبه حالة «البانتوستانات» (المعازل) التى حوّل نظام «الأبارتيد» فى جنوب إفريقيا قبل سقوطه فى عام 1994 حياة أبناء البلاد الأصليين من الأفارقة إلى العيش فى إطارها. وكان الرئيس الأسبق كارتر قد نشر فى عام 2006 كتابا هاما له أثار الكثير من الجدل وقتها بعنوان «فلسطين: السلام وليس الأبارتيد».
• • •
هكذا تعددت إسهامات وأنشطة جيمى كارتر على مدى قرن من الزمان، خاصة منذ رئاسته للولايات المتحدة التى بدأت فى يناير 1977، وتعددت إسهاماته وأنشطته، اتفق معها من اتفق واختلف معها من اختلف، ولكنه يبقى شخصية شديدة الأهمية فى تاريخ عالمنا المعاصر، ناهيك عن تاريخ بلده وشعبه.