وها نحن من جديد نقف على باب سجن من سجون المحروسة: أنا، وأختى، وثالثٌ معنا، وطفل لم يولد بعد.
فى هذه المرة، أمس الأول، كان ثالثنا منال: منال بهى الدين حسن، زوجة ابن أختى، وكان الطفل ابنها، حفيد أسرتنا الأول، والمنتظر قدومه إلى عالمنا السعيد إن شاء الله بعد ثلاثة أسابيع. وكان السجين؛ سبب وقوفنا على باب سجن الاستئناف فى باب الخلق، زوج منال، وابن ليلى أختى: علاء عبدالفتاح.
وفى مرات سابقة، من ٢٥ سنة، كان ثالثنا، أنا وليلى، هو علاء نفسه وكان فى الرابعة من العمر، وكان الطفل المنتظر أخته منى، وكان السجين؛ سبب وقوفنا على باب سجن طرة فى تلك المرة، زوج ليلى، وأبو علاء، أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح.
أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح درس القانون أثناء السنوات الخمس التى قضاها فى سجن طرة ــ محكوما لـ«التخطيط لقلب نظام الحكم» ــ فأضاف شهادة الحقوق إلى شهادته فى الاقتصاد والعلوم السياسية، وخرج ليناصر الغلابة والمظلومين فصار من كبار محامى حقوق الإنسان ومن أساتذة القانون الدستورى وأنشأ مركز هشام مبارك (لا قرابة للمخلوع) للمساعدة القانونية الذى لعب دورا مركزيا على مر سنين طويلة كرافد لثورة ٢٥ يناير، ثم، حين قامت، كداعم أساسى لها.
علاء عبدالفتاح، كما يعرف الجميع الآن، استُدعى إلى التحقيق فى النيابة العسكرية فى الأسبوع الماضى، وكان قد سافر للتو لحضور مؤتمر مهنى فى الخارج ــ فعَلاء، إلى جانب صفة «الناشط السياسى والمدون»، مهنى متميز، له مساهمات هامة فى مجال البرمجة، وبالذات فى إنشاء وتطوير طبعات عربية من أهم البرمجيات الـ software platforms، كما أن له، هو ومنال، تجارب هامة فى العمل فى تلك المنطقة التى يتقاطع فيها المهَنى مع العام: ففضلا عن أنهما من أوائل وأنجح المدونين المصريين، كانا أول من أنشأ بوابة جامعة للمدونات العربية، فكانا كمن أنشأ ميدانا يجتمع فيه كل من يريد من المدونين، فيسهل عليهم التواصل، ويسهل على العالم التواصل معهم، وأزعُم أن هذه البوابة كانت من المسببات الرئيسية للموقع المتميز الذى يحتله مدونو مصر ضمن مدونى العالم، وأخذ علاء ومنال عنها أكثر من جائزة عالمية منها جائزة «صحافة المواطنين» (إسبانيا) وجائزة «صحفيون بلا حدود» (ألمانيا). شارك علاء ومنال فى تأسيس «معسكرات الكمبيوتر» الدورية، التى تُدرِّب الشباب العربى على الكمبيوتر والمواطنة، وأسسا «التقنيون العرب» الذى، يجمع العاملين فى مجال تقنيات البرمجة على مستوى المنطقة.
حين انتهى علاء من مؤتمره عاد (حاملا عربة جديدة للمولود المنتظر) يوم السبت، وتوجه إلى النيابة العسكرية فى س٢٨ يوم الأحد، وكان معه، بالطبع، والده، وعشرات المحامين المتضامنين، وهناك مارس علاء حقه القانونى فى عدم الخضوع للتحقيق أمام النيابة العسكرية، أولا لأنه مدنىٌ تتوجب محاكمته أمام قاضيه المدنى الطبيعى، ثانيا لأن هناك شواهد بتورط أفراد وقيادات من المؤسسة العسكرية فى أحداث ماسبيرو، وفى قتل المتظاهرين فيها، فكيف تكون المؤسسة العسكرية طرفا، ومحققا، وقاضيا فى نفس الوقت؟
حكمت عليه النيابة العسكرية بالحبس ١٥ يوما رهن التحقيق، ولم يكونوا مضطرين؛ كان من الممكن أن يعود إلى بيته ــ الذى تعرف مخابراتهم عنوانه جيدا ــ فلِمَ يهرب رجل عاد من الخارج ليذهب إليهم ويعلن موقفه، وليكون إلى جانب زوجته فى الأيام الأخيرة من حملها وفى ولادة طفلهما الأول؟
كان علاء ومنال قد أخذا قرار الاغتراب لسنتين أو ثلاث، وقبلا عرضا للعمل فى جنوب أفريقيا، وسافرا. وكان العمل فى صميم الجزء الأخّاذ من المهنة، وفى صميم التوجه الأخلاقى نحو البرمجيات الحرة، ومع مجموعة عمل نشطة صدوقة متباينة، وكان جزاؤه المالى كبيرا ويأتى من جهة لا غبار عليها. فاستقرا، واستأجرا بيتا كبيرا، وفَرَشاه، ودعوا كل الحبايب ليزوروهم ــ ثم قامت الثورة. قفلا بيتهما وأتيا، وكان مجيئهما يوم موقعة الجمل فنزل علاء إلى الصفوف الأمامية يدافع عن الميدان من «أمن» وبلطجية النظام القديم. وبعد التنحى عادا إلى جنوب افريقيا، فاستقالا من العمل، وباعا السيارة والمفروشات بالخسارة، ودفعا غرامة كسر عقد إيجار البيت وعادا إلى القاهرة ليعملا من أجل مصر الثورة، ورأيا أن الدنيا أصبحت جميلة ومؤهلة لاستقبال أطفالهما، وحين حمِلت منال، قالا لو بنت هتكون «سالى» على اسم سالى زهران، ولو ولد هيكون «خالد» على اسم خالد سعيد. وها نحن ننتظر وصول خالد بعد ثلاثة أسابيع.
وانخرط علاء ومنال فى العمل. والعمل كله فى اتجاه إتاحة المساحة لحرية الرأى، ولعرض الرأى والنقاش فيه، والتمرس على الوصف والتحليل والانتقاد دون الوقوع فى الخلاف، والتدرب على العمل الجماعى، على الوصول إلى رأى أو موقف أو خطة موحدة،. ظَهَر كمُنَظِّم ومُنَظِّر ومبتكر للأفكار ومُيَسِّر لأفكار الغير، كقوة تجمع الفكر وتبلوره وتجمع الناس وتساعدهم على التواصل مع الآخرين وعلى تفعيل ذواتهم ــ أى أنه عمل، وبتلقائية تامة، عملا مكثفا فى تنمية القدرات الإنسانية التى نحن فى الثورة والبلد فى أمس الحاجة إليها. نقل مجتمع «تويتر» من الهواء إلى الواقع فنظم أول «تويت ندوة» ملموسة ولاقت نجاحا ساحقا فى ميدان التحرير وانتقلت إلى العالم. أطلق مبادرة «ياللا نكتب دستورنا»، حيث ينزل الشباب إلى الشوارع والبلدان ليستطلعوا آراء الناس فى شكل مصر التى يريدونها. حباه الله بالقبول فالتف الشباب حوله، يأخذون شرر العطاء وينطلقون ليعملوا. ثم اتضح ان الله قد من عليه أيضا ببلاغة متناهية، فَجَّرَها تفاعله مع الثورة، ومع معجزة الوجود تتبدى فى طفله الذى يتخلق ويتكور فى رحم زوجته، فتجلَّى فى كتابات ثورية شاعرية اجتماعية مُلهَمة، حَمَّلَها همه وهمنا حول البلاد، وفجيعته وفجيعتنا فى الشهداء، فكانت، كنشاطه كله، تعبيرا صادقا عن مشاعر واتجاهات إنسانية، متميزة مهنيا، مؤثرة، تدفع نحو التفكير والتأمل، والتجمع والوئام والعمل.
حكمت عليه النيابة العسكرية بالحبس وقامت الدنيا ولم تقعد.
لن أتحدث عن حجم الحراك الشعبى والمؤسسى الجارى فى خارج البلاد، بل أكتفى بالزخم الحادث هنا فى مصر، حيث أصبح الكل فى حالة تداول، والشباب يقسمون أنفسهم إلى مجموعات عمل متخصصة، وعروض المساندة تأتى من كل صوب، وخلال أقل من يوم واحد تم الحشد لمسيرة أعادت الثورة إلى شوارع القاهرة، فسار أكثر من ثلاثة آلاف مواطن من ميدان طلعت حرب، مرورا بالتحرير، إلى سجن الاستئناف بباب الخلق، وهم يهتفون لعلاء، وللثورة، وضد الظلم والحكم العسكرى. وحين أقول «أعادت الثورة إلى شوارع القاهرة» أقصد أعادت تنوع الناس فى المظاهرة، وأعادت التفاؤل والحماس والتنظيم وروح الجماعة، وأعادت أيضا التواصل الجيد مع الشارع. تحدثت مع المارة والمتفرجين بطول المسيرة: الكل متضامن، الكل يرى خطأ الطريق الذى يُسَيِّرنا فيه من يُسَيِّرنا، الكل يدرك استمرارية النظام الذى ظننا أننا بصدد التخلص منه، الكل يرجو التغيير قبل أن تخرب البلد، والكل يفهم المحاولات سيئة النية لإلقاء ذنب هذا الخراب عند باب الثورة والثوار.
الشارع لنا، والسائرون كل يجادل نفسه؛ مشاعر غريبة تلفنا: القلق عليه (هيطلع، هيعيّد معاكم ان شاء الله)، الفخر به (علاء بطل، علاء بموقفه ده وضح لنا الطريق)، الغضب الشديد من الحكم ومن المجلس العسكرى الذين يصرون على المضى فى طريق تخريب البلد، الفرحة بعودة الثورة للشارع وبعودة الشارع للثورة.
القلق عليه. علاء ابن اختى طبعا وحبيبى، ولنا صورة معا وأنا أحمله فى سبوعه والشيخ إمام يغنى له ــ خدتوا بالكوا من دى: الشيخ إمام غنى لعلاء فى سبوعه ــ لكن القَرابة ليست المحك هنا، ولا الحب، ولا التاريخ. أنا أحترم علاء وأقدره كمثال للبنى آدم الصالح، التائق دائما، كعادة الصالحين، إلى صلاح أكبر. يأخذ عن أمه وأبيه الصلابة والمهنية والوطنية والرومانسية وحس الفكاهة، مثلما فُطِر على الإيمان بالخدمة العامة والعمل الجماعى وتربية النشء وحفظ صلة الرحم، يأخذ عن أمه حدتها المباغتة وقدرتها الهائلة على الجدل، وعن أبيه حلمه المستقر وقدرته الهائلة على الاستماع،. يضيف إليهم إضافاته، ورهافته، وجماله الخاص.
لكل هذا قامت الدنيا ولم تقعد.
والمسألة الآن لا تنحصر فى علاء. أقول إن الظروف / الأوضاع الغلط تتولد عنها تصرفات غلط، والاستمرار فيها يؤدى إلى تكرار الغلط وتفاقمه، والتمسك بها يؤدى إلى تصعيده. هذه بديهيات. وأوضاع مصر الآن غلط. لم يقم ملايين المصريين بثورة حتى يحكم البلد المجلس العسكرى بنفس أسلوب وآليات النظام القديم.
من أين يستمد المجلس الأعلى للقوات العسكرية شرعيته كحاكم للبلاد؟ هل يستمدها من أن حسنى مبارك كلفه بها؟ حسنى مبارك قد خُلِع، وهو سجين متَّهَم يحاكَم، سقطت حكومته، وبرلمانه، ودستوره؛ الشعب أسقطه، ولم تعد لقراراته شرعية.
أم هل يستمد المجلس شرعيته من ارتضاء الشعب حكمه؟ وحين ارتضى الشعب حكمه ألم يكن هذا الرضا مشروطا؟ ألم يكن الشرط الأساسى هو حماية الثورة والشعب؟ لم يحموا الثورة ولم يحموا الشعب. فليفوا بالشرط الباقى: لننتقل إلى سلطة مدنية كاملة غير منتقصة غير ملعوب فيها ــ وبسرعة. وليعود المجلس إلى أموره ويترك حكم مصر قبل أن يقوض تماما علاقة المؤسسة العسكرية بشعب مصر، وبالذات بشعب مصر المستقبل: الشباب.
انتخابات حرة نزيهة، وانتخابات رئاسية حرة سريعة، ودولة مدنية. كانت الثورة فى انتظار ما يطلقها، وها هى:
آدى الثورة من جديد، جابهالنا علاء ع العيد