انتهت كل آلام العالم، حققت البشرية أعظم انتصاراتها، قضت على الأوبئة والحروب وأسبابها من فقر وتعصب وتخلف وأطماع... لم يعد سوى النيل من الرموز الدينية للمسلمين دليلا على إطلاق حريات البشر وأقلام المبدعين! لم يبق للغرب المتقدم سوى اختبار طاقات شعوب استعمرها عقودا، وعطّل قدراتها، ونهب مواردها، وأفرغها من عقولها... لم يبق له سوى اختبار طاقة تلك الشعوب على تقبّل إهانة رسولها المنقذ، الذى اتخذت محبته الموجبة لشفاعته مطية إلى جنة آخرة حرموا متاعها فى دنياهم لأسباب عدة، منها ما يتصل بممارسات ذلك الغرب ذاته!
رفع الرئيس الفرنسى قميص الحرية فى خطب عامة، طالب فيها ــ وهو يغازل اليمين المتطرف فى بلاده ــ بإطلاق حرية السباب والطعن والنيل من المقدسات. لو أن هذا العالم المتقدم يسمح بإهانة معتقدات أصحاب الثروات والأموال المسيطرة على الناخبين، لو أنه يسمح حتى بتمجيد زعامات وعلامات شكلت تهديدا تاريخيا على حضارتهم الجديدة، لكان إطلاق الحريات إلى حد التهتك المفرط والتبجح المؤذى لمشاعر مئات الملايين مفهوما ولا أقول مقبولا.
من سنن الله تعالى فى خلقه تلك الجاذبية التى تربط الكائنات بالأرض، تشد الأجسام فلا تسبح فى فضاء مخيف تنقطع عنه أسباب العيش من هواء وماء وأمن وغذاء.. فليس اتباع القيم واحترام مقدسات الغير سوى وجها لتلك الجاذبية التى تحول دون انقلاب الحريات المزعومة إلى فوضى وتيه لا مستقر له. كنا نظن أن المنعطف الخطير الذى تختبره البشرية هذا العام يحرّض على تأليف القلوب، ورأب الصدع بين الثقافات. يحض على توحيد الجهود لمواجهة مخاطر فناء البشر، وهل موت ما يزيد عن مليون نفس خلال بضعة أشهر بالأمر الهين؟! كنا نظن أننا سوف نعلو فوق الخلافات، لا أن نبدع فى صناعة خلافات جديدة، وأن نفتح فرعا جديدا لمصانع الكراهية فى أوروبا الجريحة التى تنزف أرواحا وثروات منذ ظهور جائحة كورونا مطلع العام الحالى...
***
إنك لا تقيّد الحريات ولا قيم الجمهورية الفرنسية المقدّسة إذا فرضت الأدب فى تناول المعتقدات كما تفرض النظام العام فى المرور، وكما تمنع قضاء الحاجة فى الشوارع أو فى عرض الطريق! وهل قذَر الرسوم والعبارات المسيئة للعقائد أقل خطرا على النفس من قذر فضلات الأجساد على العيون والأنوف؟!
أجد من العبث أن نكرر، فى معرض كل حديث عن احترام المعتقد والاختلاف الثقافى، سردية أننا لا نقبل ولا نبرر العنف والإرهاب بكل صورهما.. هذا شىء بديهى. كذلك لا أجد مدعاة لتبرئة الإسلام من كل حادث عنف يقوم به منتسب إلى المسلمين! كما لا يحتاج البابا فرنسيس أن ينزّه المسيحية عن جرائم يقترفها مسيحيون.. أرى أن هذا المسلك الدفاعى قد يساء فهمه، ويفتح بابا للربط بين تعاليم الدين واتخاذ العنف مسلكا ومنهجا لانتزاع المكاسب... هل قول أحدهم «الله أكبر» وهو يقتل يجعل منه مسلما يقتل باسم الاسلام؟! هذا حكم نمطى متعجّل، فعبارات التكبير تجرى على ألسن الملايين فى كثير من مشاهد الحياة ومواقفها دون أن يتصل هذا بعقيدة أو عبادة. التمييز بين العادة والعبادة مطلوب، وحتى لو ظن هذا القاتل أنه يفعل شيئا يرضى الله، فهو مسئول عن ضلال مسلكه محكوم بقانون دولته، فلا تجد عاقلا يطلب له محاكمة خاصة أو براءة من الاتهام. انظر معى إلى منفّذ حادث أفينيون بفرنسا والذى اتهم سريعا بالإسلاموية المتطرفة! لأنه كان يطلق النار مرددا «الله أكبر» ثم تبيّن لاحقا أنه يمينى متطرف يستهدف المسلمين! اللقطة الفاسدة وصناعة مشاهد التضليل باتت يسيرة جدا على أجهزة المخابرات، بل وعلى بعض الأفراد العاديين فى زماننا هذا.
***
أزمة المسلمين الحقيقية أنهم نظّموا معايشهم مئات السنين بشرائع وقوانين اختلط فيها الوحى بالاجتهاد بالتعزير بالقضاء.. وأصبحت بعض اجتهادات ابن تيمية وابن القيم الجوزية المحكومة بعصريهما وعقليهما بمنزلة الوحى عند البعض، وأزمة الغرب الناظر إلى الإسلام أنه لا يفهم هذا الخلط ويضعه كله فى كفة واحدة، يحسب التعامل معه عن طريق الفصل بين الدين والدولة ميسورا كما انقطعت الكنيسة عن تصريف أمور الحكم بُعيد عصور الظلام الأوروبية وفاشية رجال الدين التى أودت بحياة الآلاف فى محاكم التفتيش وغيرها... الفروق كثيرة أدناها أن بلاد المسلمين اليوم تحكمها القوانين الوضعية، وأغلب نصوصها مستوحى من شرائع الغرب ذاته، وأن حكام الدول ذات الغالبية المسلمة يدينون صراحة كل أعمال العنف باسم الدين ونصرة الإسلام. كان حديث الرئيس السيسى قويا حاسما ينزّه المسلمين عن جرائم الإرهاب ويعلو بالإسلام فوق فهم الفئات الضالة من المتعصّبين الجهلاء، ويدين كل اعتداء على المعتقدات وجرح للمشاعر. وفى السياق عينه خرج الكرملين الروسى، الذى كان ذات يوم منارة دولة لا تعرف الأديان وتحسبها أفيونا للشعوب، خرج ليدين حادث إرهاب الكنيسة فى فرنسا، وفى ذات الجملة يدين النيل من المعتقدات، وهو تطور عظيم فى التناول الدولى لهذا النوع من الأزمات، فقد كان مثل هذا التصريح ليلقى هجوما واسعا، واتهاما بتبرير أعمال الإرهاب إذ يربط بين إدانة الإرهاب وإدانة المساس بالمعتقد فى عبارة واحدة، لولا أن هناك فهما يكتسب مساحة على الأرض للتمييز بين التبرير والتفسير.. أعمال العنف فى فرنسا وآخرها حتى كتابة هذه السطور حادث «نيس» ليس ثمة ما يبررها، لكن بالتأكيد هناك ما يفسرّها.. اشتعال تلك الفتنة النائمة ليس منبتّ الصلة عن تصريحات للرئيس ماكرون بخصوص الرسوم المسيئة للمقام النبوى الشريف، ليس منفصلا عن سياسة كيل بمكيالين تعرّض على أثرها رسّام موريتانى إلى الفصل من عمله بإحدى المؤسسات الفرنسية غير الهادفة للربح، لأنه رسم كاريكاتير مسىء للرئيس الفرنسى! وليس منفصلا عن بيان يقطر استعلاءً صدر عن الحكومة الفرنسية للرد على حملات المقاطعة الاقتصادية، والتى للعلم لا أتفق معها أبدا، ولا أجد لها أى عائد اقتصادى إيجابى على أى من الأطراف فى زمن التشابك الاقتصادى المعقّد.
***
فى ولاية فلوريدا وقف الرئيس الأمريكى يصرخ منذ أيام منددا بإعلام بلاده، متهما إياه بالتحيز والتوجيه وانعدام الشفافية، يقول بكل صراحة إن بلاده (قبلة الحريات) تخلو من حرية الإعلام... فكيف لرجل مسلم بسيط محدود الثقافة أن يصدّق أن إهانة معتقداته هى مفصل من مفاصل حرية الصحافة والإبداع الغربى؟! وحدهم أهل العقول والأحلام يمكنهم أن يضبطوا ردود أفعالهم، يمكنهم أن يغضبوا دون اعتداء، يمكنهم أن يعلموا أولادهم التمييز بين أفعال فردية وانتهاك منظّم لحقهم فى العقيدة والتقديس. وحدهم من تهيأت لهم ظروف التعليم الجيد واكتساب المعارف فى بلاد فقيرة أرهقها التاريخ الاستعمارى وامتداده بصور متعددة من يمكن أن تأمن غضبتهم وفورة انفعالهم. لكن الحكمة تقتضى ألا تراهن على وعى ملايين حرموا الحد الأدنى من الحقوق التى تتمتع بها أنت ومنها الحق فى التعليم والحياة الكريمة، وأن تحقر معتقدهم، ثم تنتظر نتيجة مختلفة عمّا تسطره أيادى التطرف!.