بعد لقاء مع أصدقاء جلست لدقائق لتفحص بعض الرسائل على المحمول، ثم تنبهت أن عامل البوفيه يقف أمامى. فسألته إذا كان يريد شيئا، ففاجأنى بسؤال لم يكن على البال. قال «كيف يسبقنا الذكاء الاصطناعى؟»، ففهمت أنه قرأ عن الموضوع ويريد استيضاح أمور معينة. وبعد حوار لدقائق معدودة فهمت أنه يعرف ماذا يمكن أن يفعله الكمبيوتر ولكنه لا يعرف أى شىء عن الذكاء الاصطناعى. وفى محاولة لتبسيط الأمر، قلت له، تخيل أنك فى مصلحة حكومية وتريد إنجاز بعض الأوراق، ثم تصور أن أمامك طابورا طويلا من الناس يريدون إنجاز نفس المصلحة، ولكن الوقت لن يسعفك من أجل الانتظار لحين وصول دورك وإتمام أوراقك. فماذا ستفعل؟ قال، سأبحث عن شخص من المكان يدلنى على طريقة مختصرة، وإن لم أجد فسأعود فى وقت لاحق. فسألته، وماذا يعرف الرجل الذى تريد أن تستعين به؟ فقال، كل مكان به أشخاص يعرفون كيف يقضون المصلحة، وكيف ينجزون الأوراق فى وقت قياسى، ويتغلبون على العقبات جميع. كل ما عليك هو دفع بعض الإكراميات لكى تنجز مصلحتك بطريقة سريعة. فقلت له، هكذا بالضبط يعمل برنامج الكمبيوتر المعتمد على الذكاء الاصطناعى. فهو يختبر جميع الاحتمالات، ثم يرجح أقصرها فى الإجراءات، وأسرعها فى التنفيذ، ثم يأتى بالنتائج فى وقت قياسى.
فقال محدثى، لكن هذا أمر جيد جدا، فمن الممكن تحميل الكمبيوتر بأوامر تجعله ينجز مهاما كثيرة جدا تزيح عبء العمل من على الموظفين والموظفات، وتؤدى الخدمات بسهولة للجمهور. فأيدت رأيه، وأضفت أن هذا الأمر له ثمن. فقال كيف؟ فقلت، المشكلة تكمن فى طريقة وصول الذكاء الاصطناعى للطريقة المثلى لعمل شىء معين. على سبيل المثال، ما يقوم به الشخص المعرفة داخل المصلحة الحكومية هو التحرك فى إطار إجراءات معينة، عبر الأبواب الخلفية، أو حتى من الأبواب الأمامية، لكنه يستخدم ترتيبا نفهمه. بمعنى ترتيب منطقى للأمور، لكن الذكاء الاصطناعى قد يصل إلى نتيجة باستخدام ترتيب غير منطقى على الإطلاق. وهو غير منطقى لأن أحدا لم يفكر به من قبل. وبالتالى، سينجز لك المهمة، ولكن بدون أن تفهم كيف أنجزها، أو لماذا اختار هذه الطريقة بالذات. وللتوضيح، فإن برامج الذكاء الاصطناعى التى تغلبت على أبطال لعبة الشطرنج، قامت بذلك بعد أن تعلمت قواعد اللعبة. ولاعبت نفسها مرات لمدة ساعات وجيزة، ثم وصلت لطرق لم يفكر فيها أحد من أبطال العالم المشهود لهم بالكفاءة والذكاء. ثم تغلبت عليهم واحدا تلو الآخر. حتى قال بطل العالم، إن برامج الذكاء الاصطناعى فتحت بابا لم يكن متصورا، حيث طورت نظرتنا للعبة الشطرنج بطريقة غير مسبوقة. لاحظ أن التجربة الإنسانية أخذت عشرات السنين لتطوير أساليب اللعبة، بينما احتاج الذكاء الاصطناعى لساعات معدودة.
•••
نفس الشىء يحدث فى مجالات لا حصر لها. فمثلا، توغل الذكاء الاصطناعى فى المعدات الطبية أصبح أمرا حيويا للغاية. فنسبة الخطأ فى هذه المعدات، من ناحية التشخيص الدقيق، لا تكاد تذكر بالمقارنة بخطأ العنصر البشرى. ونفس الأمر يحدث فى برامج الحسابات المعتمدة على الذكاء الاصطناعى. فقال محدثى، هل سيغير هذا سوق العمل؟ هل سيحل الكمبيوتر محل البشر فى القيام بأعمال معينة؟ فقلت نعم، ولكن هذه سنة الحياة. مع كل تطور تكنولوجى يختلف سوق العمل ويعاد هيكلته بحيث تفتح مجالات عمل ووظائف جديدة، وتغلق مجالات عمل ووظائف تقليدية. لكن الأمر لا يخلو من مفاجأة غير متوقعة. فمثلا، قد يفرض نمط الإنتاج الجديد أو ما يعرف بالاقتصاد الأخضر المعتمد على الطاقة صديقة البيئة، تقليل الاعتماد على الكمبيوترات، لاسيما الكبرى فى أداء بعض الأعمال، بسبب حجم الطاقة الكهربائية الكبيرة التى تستهلكها. وهذا أقرب مثال، دولة فى حجم الصين، وهى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، منعت البحث عن العملات الإلكترونية المشفرة ــ البيتكوين ــ أو ما يعرف بالتعدين الإلكترونى بسبب حجم استهلاك الكهرباء الذى تحتاجه، مما يؤثر سلبا على المناخ. فقال، ولكن الطاقة الجديدة صديقة للبيئة. فقلت، نعم ولكن المشكلة ليست فى كيفية إنتاج الطاقة الجديدة، ولكن فى كثافة استخدام الطاقة والتى تتسبب فى زيادة الانبعاثات الحرارية، وهذا الأمر يؤثر على حجم الأعمال التى قد توكل إلى الكمبيوتر وتؤثر على سوق العمل. ولحين تطوير أجهزة كمبيوتر تستهلك طاقة أقل، لن يكون هناك تأثيرات كبرى فى سوق العمل.
ثم جاء دورى فى السؤال، وقلت لماذا تهتم بموضوع الذكاء الاصطناعى؟ فقال، إنه يسمع الكثير عن برامج التجسس التى تستطيع اختراق سبل التواصل الاجتماعى والاطلاع على مضمون المحادثات المكتوبة أو المسموعة، ويريد أن يعرف كيف تعمل؟ وقبل أن أجيبه، بادرنى بسؤال ثان، وكيف يستطيع أى أحد متابعة ملايين المحادثات بين ملايين البشر؟ فقلت، إن برامج التجسس لها مستويات عدة. وفى الأغلب ما تقصده هو برامج منتشرة على الإنترنت بوسعها اختراق هاتف معين ومتابعة المحادثات التى تجرى عن طريق ذلك الهاتف المحمول. ولكن التغلب على هذه البرامج سهل، وفى الأغلب تقوم به شركات التكنولوجيا صاحبة التطبيق نفسه. ولكن هناك مستوى آخر من التجسس يتابع مليارات المحادثات اليومية، وهو بالطبع فوق قدرات البشر على التجميع والتحليل والتتبع. ولذلك يعتمد على الذكاء الاصطناعى. وتعمل تلك البرامج عن طريق متابعة كلمات معينة يتم استخدامها فى المحادثة، ومن ثم يستطيع البرنامج تحديد الأشخاص، وأماكنهم، ثم الدخول لمستوى ثان من التحليل، لحين عرض الأمر على المسئول المعنى. أما لو كنت تقصد التجسس على شخصيات عامة فى دول أخرى، فهذا أمر آخر، ومن حين لآخر يتم فضح هذا النوع من البرامج، وآخرها برنامج بيجاسوس الذى تسبب فى أزمة سياسية بين الجزائر والمغرب.
•••
فقال محدثى وهو يضحك، يبدو أن الحل هو التخلى عن المحمول. فقلت، أظن أن توغل المحمول والكمبيوتر وعالم الديجيتال بصورة عامة فى حياتنا أصبح أمرا أساسيا، ولا أظن أن استعماله سينخفض مع الوقت. بل بالعكس، المحمول أصبح ملاصقا للأفراد، ولا يكاد يبعد عن يد صاحبه إلا لوقت محدود. وأظن أن وعى الناس يزداد لما يقوم به المحمول والكمبيوتر فى حياتنا. وهى تجربة سيستوعبها الناس مع الزمن. فسأل، هل تخشى من المحمول؟ فضحكت وقلت لا، ولكن أخشى من اختفائه فجأة. وهو أمر يكاد لا يكون متصورا، وإذا حدث، فإن المجتمعات، والبلدان، والأفراد ستشعر بصدمة لها عواقب لا حصر لها. فنحن لم نستعد لتوسع عالم الديجيتال على هذا النحو، وهذه السرعة، ولا نتصور اختفائه، أو تعطله، أو تراجعه.