تبدأ منصة «تيك توك» فى تطبيق نسخة جديدة من إرشادات مجتمعها فى 13 سبتمبر 2025، وهى النسخة التى بدت وكأنها دليل مبسط للنص القديم من حيث البنية والمضمون، إلا أن التعديل الأبرز فيها كان بإضافة نصوص واضحة بشأن ضبط محتوى جلسات البث المباشر، التى تُعد السمة الأكثر إثارة للجدل خلال الآونة الأخيرة، بتأكيد المسئولية الكاملة لمُنشئى المحتوى عما يحدث خلال تلك الجلسات، بما فى ذلك محتوى الضيوف، حتى عند استخدام أدوات خارجية للترجمة أو عرض التعليقات، فضلاً عن تحديثات لتطوير معالجة المعلومات المضللة، وتحسين قواعد مكافحة التحرش والتنمر، وإدراج المقامرة والكحول والتبغ والمخدرات والأسلحة النارية والأسلحة الخطرة فى سياسة تنظيمية موحدة، مع تطوير توظيف أداوت الذكاء الاصطناعى فى ضبط وإزالة أى تجاوزات بنسبة فاقت 85% من المحتوى المزال.
وتأتى هذه النسخة المعدلة بعد أيام من إعلان الشركة عن إزالتها أكثر من 16٫5 مليون فيديو فى الربع الأول من العام الجارى بمنطقة الشرق الأوسط وحدها، وهى إجراءات التنظيم والضبط التى لا يمكن فصلها عن سياقها الأوسع بالنظر إلى الانتقادات المتصاعدة حول انتشار المحتوى الضار أو غير الأخلاقى على المنصة، وهى الانتقادات الممتدة من مستوى الخطاب العام إلى السياسى؛ حيث برزت مقترحات تشريعية فى عدد من الدول تدعو إلى فرض قيود صارمة على التطبيق أو حظره تمامًا، بالإضافة إلى إجراءات قضائية طالت بعض المؤثرين بتهم تتعلق بارتكاب مخالفات جنائية أو انتهاكات أخلاقية.
• • •
كانت الولايات المتحدة الأمريكية مصدر الضغوط الأبرز التى واجهتها شركة «بايت دانس»، المالكة لتطبيق «تيك توك»، خلال السنوات الأخيرة، وذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومى والسيادة الرقمية. وعلى الرغم من تراجع تلك الضغوط مع إعادة انتخاب دونالد ترامب، بل وإطلاق البيت الأبيض مؤخرًا حسابًا على المنصة، قبل أسابيع قليلة من انقضاء الإرجاء الرئاسى الثالث لتنفيذ قانون الحماية من التطبيقات المملوكة للخصوم الأجانب، والذى يُلزم ببيع «تيك توك» أو تعرضه للحظر داخل البلاد فى 17 سبتمبر المقبل؛ فإن ذلك لا يعنى تراجع التحديات العالمية التى يواجهها التطبيق، ليس فقط لدواعٍ سياسية وأمنية، ولكن أيضًا لأسباب تتصل بمستويات الأمان والسلامة المتعلقة بالقيم والأخلاقيات المجتمعية.
وقد بلغ عدد الدول التى تفرض حظرًا على تطبيق «تيك توك» 19 دولة حول العالم، منها ثمانى جعلت تطبيق التواصل الاجتماعى غير قانونى ليس فقط على هواتف موظفى الحكومة والقطاع العام، كما هو الحال فى فرنسا وكندا والمملكة المتحدة، بل أيضًا على الهواتف المملوكة لعامة الناس.
وفى العالم العربى، شهدت مصر مطالبات برلمانية ودعاوٍ قضائية لحجب تطبيق «تيك توك» لتأثيره السلبى فى الشباب، كما عقد مُشرعون اجتماعات مع الشركة الصينية لمطالبتها بحذف المحتوى غير المطابق للضوابط المجتمعية، وذلك بالتزامن مع ضبط عدد من صانعى المحتوى على المنصة بتهم تشمل إساءة الاستخدام والإضرار بقيم الأسرة المصرية. وفى العراق، أعلنت وزيرة الاتصالات أنها قدمت طلبًا رسميًا إلى مجلس الوزراء لحجب «تيك توك»؛ لإسهامه فى تفكك النسيج المجتمعى.
ولا تقتصر هذه الإجراءات لحماية القُصر من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعى على تلك الدول فحسب، بل تمتد إلى الصين التى تنتمى إليها شركة «بايت دانس» والتى لا تسمح لتطبيق «تيك توك» بالعمل داخلها، وتستبدل الشركة به تطبيقًا محليًا بديلاً يحمل اسم «دوين» يتضمن قواعد صارمة لحماية القُصر.
• • •
لا يمكن استبعاد العوامل السياسية المتعلقة بالمخاوف من النفوذ الصينى، ومعايير الخصوصية والسيادة الرقمية وغيرها، عند النظر إلى الضغوط التى يتعرض لها «تيك توك»؛ لكن مطالبات التنظيم التى تصل إلى الحجب لأسباب اجتماعية، تفتح المجال للنظر إلى ما يجعل هذا التطبيق محلاً للاتهام بشكل أكبر من التطبيقات المشابهة، ويتصل ذلك بعدة أسباب رئيسية، هى ما يلى:
1- طريقة عمل «تيك توك»؛ حيث يعتمد التطبيق على خوارزمية قوية ومتقدمة للتوصية بالمحتوى، تعتمد بشكل أساسى على مفاهيم التخصيص الشخصى والرواج. وفى ظل تعريف تطبيق «تيك توك» لنفسه باعتباره منصة ترفيه وليس شبكة للتواصل الاجتماعى، فهو يمنح الاعتبار الأول للمحتوى الترفيهى، بما فى ذلك المقاطع الكوميدية والاتجاهات الرائجة.
وهذه السمات تخلق بيئة محفزة للمحتوى القادر على الانتشار، والذى يميل فى الغالب إلى الهزلية والغرابة، لجذب الاهتمام وسط هذا الكم الهائل من الفيديوهات المتداولة يوميًا، والتى يصل معدل إنتاجها إلى 34 مليون فيديو يوميًا؛ وهو ما يعنى أن الخوارزميات لا تكتفى بعرض المحتوى وإنما تعيد تشكيل أنماط التلقى والذوق العام؛ ما يجعل التأثير الثقافى أكثر عمقًا من مجرد ترفيه عابر.
2- منهج «تيك توك» فى سياساته لضبط المحتوى، والتى يبدو أنها تتمتع بقدرٍ وافر من المرونة من أجل استيعاب أنماط المحتوى عبر الثقافات المختلفة، ولا سيّما الهزلى منها. ففى النسخة الجديدة من إرشادات المجتمع، لا يستخدم التطبيق مصطلح «محتوى غير أخلاقى» بشكل مباشر فى قواعده العامة؛ بل يدرج مجموعة من فئات المحتوى تحت بند «السلامة والممارسات الأخلاقية»، مشيرًا إلى أن الكرامة والاحترام هى محور تعريفه لتلك الممارسات التى لا تستدعى الاتفاق العام بشأنها، وهى الفئات التى تشمل السلوك العنيف والإجرامى، والكراهية والكلام والسلوك الذى يحرض عليها، والمنظمات والأفراد الذين يتسمون بالعنف والكراهية، والاعتداء الجنسى والجسدى على صغار السن وكذلك على البالغين، والاتجار بالبشر والتهريب، وأخيرًا المضايقة والتنمر.
3- النشأة الأولى لـ«تيك توك» كمنصة لإنتاج فيديوهات مزامنة الشفاه ومقاطع الفيديو الكوميدية التى ارتبطت بفئات المراهقين بشكل كبير، كما ارتبط التطبيق لفترة، لا سيّما فى العالم العربى، بالمحتوى الردىء والمؤثرين من الفئات الأقل تعليمًا وثقافة، وهى الصورة التى التصقت به لفترة طويلة بالرغم من حملات التسويق وإعادة بناء العلامة التجارية التى استعان فيها بالمشاهير من أجل إعادة بناء صورته كمنصة شبابية تحمل محتوى جديرًا بالمشاهدة.
• • •
فى عام 2022، صرح الرئيس التنفيذى لـ«تيك توك»، شو زى تشيو، بأن أطفاله أصغر من أن يستخدموا التطبيق لأنهم أقل من 13 سنة، وهو التصريح الذى لاقى اهتمامًا واسعًا بالنظر إلى أعداد الأطفال المستخدمين للتطبيق حول العالم، وبالمخالفة لقواعد التطبيق نفسه الذى يشترط ألا يقل عمر المستخدم عن 13 سنة حتى يتمكن من إنشاء حساب له، مع توفير تجربة مخصصة تحت إشراف الوالدين للمستخدمين تحت هذه السن داخل الولايات المتحدة.
ولعل تلك الواقعة، والتى أعاد تشيو الإشارة إليها فى جلسة استماع بالكونجرس عام 2023، تعكس بوضوح أهمية دور الأسرة فى ضبط التوقيت والمدة والمحتوى الذى يتعرض له أبناؤهم فى وسائل التواصل الاجتماعى، والمحتوى الرقمى بشكل عام؛ وذلك فى ظل منظومة متكاملة تجمع بين الضبط التقنى، والرعاية الأبوية والتوعية المجتمعية، والضبط الأمنى والقانونى.
تتحمل الأسرة العبء الأكبر فى حماية أبنائها وتوعيتهم، وليس مساعدتهم على استخدام منصات لا تتيح سياساتها هى نفسها إنشاء حسابات لمن هم فى أعمارهم، بل يتعدى دورهم ذلك إلى تأسيس وعى حقيقى واستباقى يزرع فى الأبناء مناعة فكرية وسلوكية، وقدرة على التفريق بين المحتوى القيم والهادف، وبين المضامين الترفيهية الزائفة أو الضارة.
وتبرز الحاجة إلى إعمال منظومة تكاملية واعية بين الأسرة والمجتمع والمبدعين، لتخفيف أثر المحتوى الاجتماعى الأقل جودة، بالنظر إلى أن المحتوى الردىء فى حد ذاته ليس بجريمة، ولا يمكن مواجهته سوى بتوفير بدائل للمحتوى الجيد وممارسة الأنشطة العامة، وتوفير بدائل جيدة للترفيه تتجاوز حدود الأجهزة الذكية، وكذلك تطوير العقلية الناقدة عبر مؤسسات الثقافة والإعلام والتعليم، ليتكامل مع كل ذلك دور الأجهزة التنفيذية فى ملاحقة مرتكبى الجرائم مثل النصب والترويج للمخدرات وبيع السلاح وغيرها.
وعلى المستوى نفسه، تبدو حلول التنظيم التكاملية أكثر فاعلية من قرارات الحظر الشامل، والتى تخالف مجريات الزمن، وتتعارض مع قيم العصر الرقمى ومفاهيمه. ولا يُجدى الحظر نفعا بالنظر إلى الحلول التقنية المتاحة لتجاوز الحظر، أو ابتكار بدائل بمسميات جديدة لتقديم نفس الخدمات.
ختاما، يظل الحظر والمنع من الإجراءات الأقل جدوى فى العالم الرقمى، الذى لا ينفك عن إيجاد البدائل وابتكار الحلول للنفاذ عبر جدران الحظر والمنع والتعتيم، إلا أن التنظيم الواعى لحماية الأطفال والمراهقين، ونشر الوعى؛ يظلان الركيزة الأكثر متانة واستدامة. فالعالم الرقمى يتسع ويتشعب بسرعة تفوق قدرة التشريعات على ملاحقته؛ مما يجعل المناعة المجتمعية القائمة على العلم والوعى والنقد هى حائط الصد الحقيقى لأية مخاطر أو ممارسات سلبية؛ الأمر الذى يتطلب شراكة غير تقليدية لتطوير نموذج متكامل يراعى التوازن بين التنظيم وحرية الإبداع.
فاطمة الزهراء عبدالفتاح
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/txarj9pb