أطياف العالم القديم إذ تحاصر الثورة اللبنانية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أطياف العالم القديم إذ تحاصر الثورة اللبنانية

نشر فى : الأحد 3 نوفمبر 2019 - 10:50 م | آخر تحديث : الأحد 3 نوفمبر 2019 - 10:50 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب حازم صاغية، جاء فيه ما يلى..
حين هاجم أفراد وصفوا بأنهم من أنصار «حركة أمل» و«حزب الله» جسر الرينغ فى بيروت، كان بعضهم يهتف: «شيعة، شيعة». بالنسبة إليهم، مجرد ذكر الطائفة صرخة حرب، وهذا امتداد لتقليد حربى قديم جدا. ذاك أن الدفاع عن اسم الهوية هو الدفاع عن الهوية نفسها. لا بل مجرد ذكر الاسم يملك طاقة تعبوية تلامس المشاعر وتتصل بمقدس جمعى واع أو مستتر.
فاللغة الطائفية، خصوصا حين ترد فى سياق حربى، لا تقتصر وظيفتها على مخاطبة الآخر الطائفى. إنها تصنع أيضا لمخاطبة الذات الطائفية؛ فهى إذ تستحضرها، تؤكدها وتعززها، وتذكر بها من يهدده النسيان، فيوشك أن ينشق عنها.
وأيام الثورة اللبنانية أيام بدأ النسيان فيها يهدد حربية الطوائف وعالمها القديم. لم تختف الطوائف بالطبع، وهى لا تختفى، لكن كثيرين انزاحوا عنها أو شذبوا شفرتها الحادة، أى أن نسيانا ما شرع يتسلل إليهم. هكذا بات ينبغى التذكير، وإرجاع من ضربه النسيان إلى «أصل» أول، إلى قديمنا «غير القابل للتبديل»، قديمنا الذى نعرفه بدلا من الجديد الغامض الذى نتعرف إليه. فى هذا المعنى يستحضر «الأصل» ولغته فى تشبيح لغوى ومفهومى، سياسى وإعلامى، واسع.
محطة «أو تى فى» التلفزيونية العونية كانت الرائدة فى مضمار ردنا إلى «الأصل» المفترض. فى التحريض على إرجاع المستقبل إلى القمقم الذى باشر الخروج منه. اشتغلت بكفاءة باهرة على استخراج الغرائز لتثبيتنا فى العالم القديم. لقد قدمت قراءة للثورة تأبى الاعتراف بأى جديد: التذكير دائم بـ «زمن الميليشيات»، أى زمن الحرب الطائفية، عبر الاستخدام الذرائعى لإغلاق الطرقات، والمبالغة فى دور بعض عناصر «القوات اللبنانية» فى ذلك. هناك أيضا ما هو أخطر: تصوير استقالة سعد الحريرى من رئاسة الحكومة بوصفها «طعنة» لرئيس الجمهورية. هنا يقيم ما يكفى من الإيحاءات ذات الأصول القديمة بأن رئيس الحكومة «السنى» يتخلى فى الظروف الصعبة عن المسئولية الوطنية. بعض الذين فهموا المغزى العونى، ردوا بالمنطق نفسه: إنه استهداف للسنة، لا سيما أن الاستقالة اقتصرت على الحريرى، من دون أن يستقيل رئيس الجمهورية «المارونى»، ورئيس مجلس النواب «الشيعى». ويخشى إذا نشأ وضع يحاصر طرابلس وعكار وحدهما، من غير أن تهب باقى المناطق لإنجادهما، أن تحظى الرواية الطائفية بمزيد من التعزيز.
على أى حال، يعمل بجد ونشاط على إبقاء صور الماضى جاثمة على صدر الحاضر.
بعض هذا الماضى البعيد الذى يراد تخليده مداخلات المؤسسات المذهبية دعما للسياسيين المنتمين إلى مذهبها. بيان مجلس المطارنة الموارنة مثل غير حصرى. بعضه أيضا محاولات دفع الجيش إلى الصدام بالشعب، رغم سلمية الثورة. لكن بعض هذا الماضى القريب التهويل بحضور السوريين فى المظاهرات، لا سيما فى طرابلس، من قبل المحطة التلفزيونية إياها. إذا، ينبغى إيقاظ العنصرية أيضا. وبالطبع هناك دائما اللازمة الأخلاقية: إن ساحات التجمهر أمكنة موبوءة بالمخدرات والمثلية الجنسية والعلاقات الجنسية من كل نوع... هنا يبلغ الانفصال عن «أصالتنا» مرتبة الذروة.
إلى ذلك، تجهد آلات كثيرة لإنعاش فهم للسياسة يواكب تشكيل الحكومة الجديدة، حيث الانشغال بالكتل والحقائب، وتمثيل كل منها، وباشتراطات واحدها على الآخر. أما المعنى الآخر للسياسة، بوصفها إشرافا من القاعدة على اشتغال السلطة، ودينامية متحركة لتجديد النخب، وموقفا من البيئة، ومن العنصرية، ومن المساواة الجندرية، ومن عقلية الوصاية الأبوية... فهذا ما لا يراود أصحاب الذهنية المفلسة.
محطات التلفزيون فى توقفها عن تغطية النشاط الثورى، بعد استقالة الحكومة، كانت شريكة فى هذا التغليب لمنطق فى العمل السياسى على سواه.
طريقة أخرى فى الالتفاف، أولها تمويل السفارات، وآخرها قتال إسرائيل. الأمران مزعومان، لكن زعمهما لا يلغى انتسابهما إلى زمن تصدعت فيه الحركات المطلبية والاحتجاجية اللبنانية باسم «القضية القومية». إعادة استدراج هذه القضية، عن براءة أو عن خبث، إعادة استدراج لذاك التصدع، لكن المسألة أبعد وأخطر: فمن بعيد ضم آية الله خامنئى صوته إلى أصواتنا القديمة، فغرد: «أوصى الحريصين على العراق ولبنان بأن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذى تسببه فى بلادهم أمريكا والكيان الصهيونى وبعض الدول الغربية، بأموال بعض الدول الرجعية». هنا نشبك أيضا بالنزاعات الإقليمية التى نعرف (أقله منذ 1975) كيف عطلت كل تطلع إلى التغيير.
تغريد السيد خامنئى، تيمنا بالبلابل، يكمله أن عامليه فى لبنان لا يغردون. إنهم، وبالذرائع نفسها، يصرخون: إلى الوراء در، وفى أيديهم هراوات ثقيلة.
ويبقى تعبير لفت كثيرين: «الدول الرجعية»، الذى يوحى بأن إيران دولة «تقدمية»، هذا ما يعرف خامنئى أكثر من سواه أنه محض كلام خرافى، لكنه بالتأكيد يعلن حسده للتقدمية الجديدة، السلمية والشبابية، التى أبدتها الساحات العربية، فذاك القديم نفسه ينوى إعادة الاستحواذ على جملة من المعانى والمصطلحات التى تتصدرها كلمة «ثورة». إنه الهجوم على الجديد الثورى من جهة القديم «الثورى» هذه المرة.

التعليقات