نشرت صحيفة The Jerusalem Post مقالا للكاتب Seth Frantzman تناول فيها رغبة تركيا وإيران لاستعادة نفوذهم وموقعهم التاريخى فى الشرق الأوسط، ورغبة تركيا فى استعادة ما خسرته بعد الحرب العالمية الأولى فى ظل التوجه الأوروبى لمزيد من العزلة.. ونعرض منه ما يلى:
فى نهاية شهر نوفمبر الماضى، تركيا ركزت أنظارها على هدف جديد.
الحرب الأهلية ــ المنسية ــ فى ليبيا تزداد حدة. الحكومة فى طرابلس، والتى يُطلق عليها حكومة الوفاق الوطنى، كانت تفقد سيطرتها لصالح الجيش الوطنى الليبى بقيادة اللواء خليفة حفتر المتمركزة قواته شرق ليبيا.
تركيا تدعم طربلس ومصر تدعم حفتر. وهذا يعتبر جزءًا من صراع أوسع تحاول فيه تركيا إعادة إحياء نفوذها وقوتها التى لم نشهدها منذ الحرب العالمية الأولى. قبل قرن من الزمان، اعتقدت القوى الأوروبية أن الإمبراطورية العثمانية يمكن تقسيمها بسهولة والاستيلاء على أراضيها. ولكن تركيا عادت وتتواجد فى مناطق مثل شمال العراق وشمال سوريا وليبيا وحتى فى منطقة الخليج العربى والصومال.
أدى مؤتمر باريس للسلام الذى انتهى فى يناير 1920، منذ 100 عام، إلى ولادة العديد من القضايا التى مازال الشرق الأوسط يعانى منها. فعلى سبيل المثال تم توقيع معاهدات مستبدة بعد الحرب العالمية الأولى مثل معاهدة سيفر 1920 وبعدها معاهدة لوزان 1932 أنشأ على إثرها حدود البلدان فى الشرق الأوسط.
فلماذا توجد مقاطعة هاتاى فى تركيا، بينما كان من الممكن أن تقع فى سوريا؟ ولماذا الموصل توجد فى العراق على الرغم من أنها كانت جزءا من تركيا؟ ولماذا لا يوجد دولة للأكراد؟ التوترات الحالية فى الشرق الأوسط والقضايا العالقة من لبنان للعراق إلى ليبيا وتركيا وغزة كلها نتيجة لذلك.
***
دعونا نبدأ من حيث تنتهى آخر ما تطمح إليه تركيا ــ ليبيا.. كانت ليبيا ملعبا لحرب هادئة بالوكالة تُظهر الانقسام فى العالم الإسلامى بين الإخوان المسلمين، والتى ينتمى إليها الحزب الحاكم فى تركيا، ودول تعارض جماعة الإخوان المسلمين.
أردوغان لديه طموحات عالمية، وليبيا من الممكن أن تكون المفتاح لتحقيقها. كانت تركيا ترسل بالفعل طائرات بدون تيار ومدرعات إلى طرابلس ولكنهم لم يستطيعوا إيقاف حفتر الذى تعهد فى نوفمبر الماضى السيطرة على طرابلس وتطهيرها من الإرهاب والميليشيات.. وردت تركيا أن أمير الحرب حفتر يجب أن يتم ردعه. وما تريده تركيا فى مقابل ردعه هو حق الولوج لمساحة البحر المتوسط بين تركيا وليبيا.
إذا تم رسم خط بين ليبيا وتركيا، حتما ستصطدم بالجزر اليونانية مثل جزيرة كريت. ولكن إذا رسمت خطا من شرق ليبيا فهناك ممر ضيق بين قبرص والجزر اليونانية يصل بين تركيا وليبيا. من هنا قامت تركيا بخطوتها الجريئة. فى مقابل إرسال بعض المقاتلين لدعم حكومة طرابلس، ستحصل تركيا على منطقة اقتصادية خالصة تفصل بين قبرص واليونان يكون لها الحق فيها بالتنقيب عن الغاز الطبيعى. وهى أيضا تقوم بإحباط آمال قبرص واليونان فى دعوة شركات مثل «الوكالة الوطنية للمحروقات» للتنقيب عن الموارد الطبيعية تحت سطح البحر.
تريد أنقرة أن تظهر قوتها من خلال هذا، فهى ترسل أسطولها وتجرى عمليات الحفر رافعة رايتها. تركيا لديها قواعد عسكرية بحرية جديدة وتشترى سفن حفر جديدة. لقد ظنت قبرص أنها متقدمة عن تركيا عندما وقعت اتفاقيات مع مصر سنة 2003 ولبنان سنة 2007 وإسرائيل سنة 2010.. ولكن تركيا قلبت الموازين.
***
يجب الرجوع للتاريخ لفهم العلاقة بين تركيا واليونان وقبرص. غزت تركيا قبرص سنة 1974 بدعوى حماية الأقلية التركية وظلت تركيا فى قبرص منذ ذلك الحين واعترفت بشمال قبرص كدولة ــ لم تعترف أى دولة أخرى بها ــ وبحقها فى التنقيب عن الغاز حول قبرص.
بالنسبة لتركيا، قبرص كانت عملية أظهرت تركيا من خلالها أنها لن يتم إزاحتها مجددا من الجزر فى البحر المتوسط ــ على سبيل المثال، جزر دوديكانيسيا القريبة من رودس سيطرت عليها إيطاليا خلال حربها مع الإمبراطورية العثمانية سنة 1912. واستولت إيطاليا أيضا على رودس، وبعد ذلك استولت عليها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك أصبحت جزءا من اليونان سنة 1947. تركيا الآن تقول، على الرغم من أن هذه الجزر جزء من اليونان، فإنه لا يمكن لليونان أن تستخدم هذه الجزر لتحديد حقوقها فى المياه حول الجزر. وبدلا من ذلك، يعطى الجرف القارى الممتد من تركيا حقا لأردوغان فى هذه المياه.
***
قرار تركيا بإعادة إحياء مطالبها فى البحر وإرسال قوات إلى ليبيا يجب أن ينظر إليه فى ضوء قرون من السياسات التركية منذ سقوط الخلافة العثمانية. العثمانيون خسروا ليبيا أمام الإيطاليين سنة 1912.. والآن عاد العثمانيون.
لقد تلاعبت تركيا بسياساتها منذ انتهاء الخلافة العثمانية. فى عشرينيات القرن الماضى، كان يبدو أن الدولة ستتفكك. ولكن طردت تركيا اليونانيين وبدأت حملة من القومية التركية والعلمانية التى حلت محل الحكم الأوروبى فى إسطنبول ونتجت عنها الحدود الحالية للدولة. ولكن لم تكن أنقرة يوما راضية ولطالما شعرت أن قوتها السابقة تقلصت.
خلال الحرب الباردة، كانت تركيا حليفا للولايات المتحدة وأيضا عانت من مشاكل وانقلابات داخلية. فى نفس الوقت، بدا أن جيران تركيا يتقدمون. فسوريا تحت حكم حافظ الأسد حاولت أن تكون جنة عربية للاشتراكية مستعيرة بالعادات القومية العلمانية الأوروبية ومزجها بالاشتراكية والقومية العربية. فكان يرغب بالتحديث والظهور بمظهر الدول الأوروبية مع طراز شيوعى وحشى ملىء بالكثير من الدبابات السوفيتية وغيرها.. ولكنها غفلت الإجابة عن الأسئلة التى ظهرت بعد 1920. على سبيل المثال، ماذا عن الأكراد فى شرق سوريا؟ فلقد عاملهم نظام الأسد البعثى على أنهم غير موجودين، وقام بقمعهم وحرمان الكثير منهم من حقوق المواطنة.
كما تجاهل نظام الأسد القبائل العربية على طول نهر الفرات. ولذلك تطلعت هذه القبائل فى بعض الأحيان إلى عراق صدام حسين عبر الحدود وإنشاء علاقات ثقافية مع القبائل فى محافظة الأنبار. كان صدام حسين، مثله مثل الأسد، نتاجًا للعصر الثورى القومى العربى. فكل هذه الأنظمة، من الأسد إلى صدام إلى مصر، كانت رد فعل على الحقبة الاستعمارية البريطانية والفرنسية. لقد حلوا محل النظم القديمة الملكية والاستعمارية والقبلية.. فقد أرادوا الحداثة.
بطريقة ما، كانت هذه ردود أفعال ضد القومية اليهودية للصهيونية وكذلك القومية التركية العلمانية لأتاتورك.. إذا كانت هناك دولتان يهودية وتركية، فسيكون هناك أيضًا مجموعة من الدول القومية العربية.
لم يحل العراق أبدا المشاكل التى أثارها المستعمرون البريطانيون. أراد البريطانيون ضم الموصل إلى العراق حتى يكون هناك المزيد من العرب السنة لدعم الملك الهاشمى الذى اختاروه. كان الملك من السعودية وشقيقًا لملك الأردن فى ذلك الوقت. لكن بالنسبة للعراق، أصبح أول عراقى.
هذا لم يعنى الكثير بالنسبة للأكراد فى الشمال، الذين أرادوا الحرية والاستقلال. يُنسى أحيانًا أن دولة كردية مستقلة ــ سُميت جمهورية ماهاباد ــ قد نشأت فى عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية. مثلما تغيرت السلطة فى رودس، أو مثل السؤال حول ما إذا هاتاى ستصبح جزءًا من تركيا أم لا، كانت هذه الجمهورية نتيجة ثانوية للأسئلة التى لم تحل منذ عشرينيات القرن الماضى.
بدلا من حصول الأكراد على حريتهم وحقوقهم، أُجبروا على أن يكونوا جزءًا من الدول التى لم تريدهم أو تعترف بهم. قيل لهم إنهم قوميون عرب أو قوميون أتراك وليسوا أكرادا. أما بالنسبة للقوى الاستعمارية، لم يكن أمرهم مهما. بالنسبة للأنظمة القومية، كانوا صُداعًا. بالنسبة للولايات المتحدة والسوفييت فى الحرب الباردة، كانوا أدوات تستخدم ويتم التخلص منها بعد ذلك.
كان هذا النظام الذى نشأ فى عشرينيات ثم فى ستينيات القرن الماضى يدور حول دول موضع شك، مثل العراق وسوريا ولبنان. دمشق كانت لديها طموحاتها الخاصة. وفى مرحلة ما، سعت الثورة العربية إلى جعل دمشق جزءا من دولة عربية أكبر. ولكن عارض ذلك البريطانيون والفرنسيون. وأصبحت المملكة الأردنية مملكة بدوية.. وربما بدت الممالك التى تم إنشاؤها فى القرن العشرين ضعيفة، ولكن قوتها للبقاء كانت أقوى من الأنظمة الوطنية.. وبدلا من ذلك، تم الإطاحة بالنظم الوطنية ــ من القذافى فى ليبيا إلى صدام فى العراق وعلى عبدالله صالح فى اليمن. لقد انهار النظام الناصرى فى عام 2011 مع اندلاع الثورة. كما أُجبر زين العابدين بن على فى تونس على الخروج. وكذلك النظام الجزائرى.
لماذا استمرت بعض الأنظمة الملكية دون غيرها؟ فعلى حين بدا الملك إدريس فى ليبيا قويا إلا أنه طرد من منصبه فى عام 1969 بينما كان يتلقى العلاج فى تركيا. ولم يستمر الملك فاروق فى الحكم على الرغم من دعم بريطانيا له. وخلاف ذلك، بقيت الملكيات الخليجية والممالك المغربية والأردنية على قيد الحياة. وهذا على الأرجح لأن دولهم إما أكثر تجانسًا أو بسبب تقاليدهم فى الحكم، فلقد حققوا نجاحا أكبر.
شهدت السنوات العشر الماضية تغيرات غير عادية، حيث تمزقت معظم الدول العربية من الداخل. وحينما فشلت الملكية أو القومية العربية، افترس التطرف الدينى الصاعد الدول الضعيفة. لكن حتى هذا الصعود الإرهابى الإسلامى لم يستمر.
داعش جاءت وذهبت. حتى الإخوان المسلمين الذين صعدوا لفترة وجيزة فى غزة وحتى فى طرابلس وسعوا إلى الانتخابات فى تونس والأردن ومناطق أخرى لم يحققوا النجاح الذى توقعه البعض. الإسلام السياسى لا يحقق أى نجاح.
ما حدث هو أن دول الأطراف القوية تاريخيا، تركيا وإيران، صعدت وسيطرت على جميع أنحاء الشرق الأوسط. هذه الدول، مثل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفارسية، تم إضعافهم فى عام 1920 وحلت الدول الأوروبية محلها. لكن الآن، ومع توجه أوروبا إلى مزيد من العزلة، فإن هذه الدول تصعد مرة أخرى.
تعد رحلة تركيا إلى ليبيا مجرد رمز لهذا النظام العالمى الجديد فى الشرق الأوسط.
إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلى
http://bit.ly/2ZLNoRH