ــ 1 ــ
أيام قليلة وتنقضى الدورة الرابعة والخمسون من معرض القاهرة الدولى للكتاب. ما يقرب من أسبوعين وحالة ذهول حقيقية تصيب كل من زار المعرض أو تابع أخباره أو اتصل به بسبب مباشر أو غير مباشر!
من اليوم الأول، وحتى اليوم ما قبل الأخير؛ يمتلئ المعرض عن آخره بزواره والمقبلين عليه من الأعمار والجنسيات والثقافات والانتماءات! بمجرد أن يفتح الباب فى العاشرة صباحا وحتى موعد إغلاق أجنحة البيع فى الثامنة مساء والمعرض فى قاعاته وصالاته وأجنحته «يشغى» (بالمفردة الدارجة الجميلة التى تدل على الزحام والحركة والنشاط معا) بالبشر!
هذه الدورة التى كانت مهددة بأن تكون الأسوأ والأكثر كارثية فى تاريخ دورات معرض الكتاب، أظن بإجماع الخبراء والمراقبين والمتابعين والمهتمين كانت الأنجح والأكثر جماهيرية وحضورا وشعبية على كل المستويات. أمر عجيب ومدهش ومثير للتساؤل والتأمل أيضا!
ــ 2 ــ
هذا النجاح الكبير لدورة هذا العام لم يكن أحد أبدا يتوقعه أو يتوقع مداه حتى فى أذهان ومخيلة أكثر المغرقين فى التفاؤل، فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة، وفى ظل الركود المتعاظم، وانخفاض أسعار العملات المحلية فى مقابل الدولار، كل ذلك فضلا عن الارتفاع الجنونى فى مدخلات صناعة النشر (أسعار الورق، والطباعة، وما شابه) . كل شىء كان يقود إلى المجهول، لكن المفاجأة المدوية أن العكس تماما هو الذى حدث!
نجح المعرض نجاحا مذهلا رغم هذه الظروف، ورغم بعد المسافة، ورغم كل المعوقات والتحديات التى كان من المستحيل مواجهتها أو التغلب عليها إلا بفضل حالة الاستنفار والتكاتف والتعاون التى اتفق عليها الجميع، ناشرين ومؤلفين وقراء وصحفيين ومنظمين... إلخ. ليس لدى تفسير دقيق لما حدث، لكن دائما البشر وحدهم، والناس فقط هم الذين يكسرون بإرادتهم الحرة أى توقع، وهم الذين يُنجحون أى حدث مهما كان، وبتدفقهم الذى لم ينقطع طيلة أيام المعرض منحوا معرض الكتاب تفوقا وتميزا وحضورا ليس له مثيل.. شىء مفرح ورائع!
ــ 3 ــ
ورغم الإرهاق والتعب الشديدين كنت أعود من المعرض وأنا فعلا أشعر بسعادة غامرة وبهجة حقيقية وامتنان لا حدود له لهؤلاء البشر الطيبين الودعاء الذين جاءوا من كل مكان فى مصر كى يشتروا كتبا ويقرأوا ويقدموا لكتابهم وناشريهم أعظم هدية، لا أقصد الربح المادى وإنما الحضور الجارف الذى يمنح الحيوية والطاقة والشغف.
كيف أشعر بالتعب وأنا أشاهد هذا الجمهور الكبير؛ رجالا ونساء وأطفالا يقفون فى طوابير طويلة جدا منتظرين الدخول؟ وكيف يمكن أن أشعر بالإرهاق وأنا أرى شبابا وصبايا رائعين ورائعات يرشدون الزوار ويعملون على راحتهم؟ هؤلاء البشر عظيمون بكل ما تعنيه الكلمة.
بعضهم جاء من أسوان ومن البحر الأحمر وأسيوط والوادى الجديد؛ طبعا ولا أتحدث عمن جاء من الإسكندرية ودمنهور وطنطا والشرقية وكفر الشيخ والمنصورة؛ حكى لى أصدقاء كثيرون من الناشرين الأعزاء عمن جاء من أقصى مكان إلى معرض الكتاب كى يشترى كتبا طلبها أهله وأصدقاؤه الذين ينتظرون المعرض كل عام لإرسال ابنهم أو ابنتهم فى هذه المهمة الشاقة والتى يقبلان على القيام بها فى غاية من السعادة والشغف سعادة حقيقية لا توصف؛ فضلا عما يشتريه أو تشتريه أيضا من كتب وروايات. شىء جميل ومبهج ويعطى أملا كبيرا فى المستقبل والله العظيم!
هذا على المستوى الجماهيرى الخالص الرائع، فماذا عن الفاعليات ولقاءات الكتاب والمثقفين والمعنيين عموما بالثقافة والأدب والفكر؟
فى ظنى أن دورة هذا العام شهدت واحدا من أكبر التجمعات الحقيقية للمثقفين والكتاب العرب خلال السنوات العشر الأخيرة. كتاب ومؤلفون جاءوا من لبنان والمغرب والعراق وسوريا والسودان والجزائر والكويت والسعودية؛ ومن أوروبا وكندا وأمريكا وإفريقيا! حشد هائل ليس فيه ادعاء ولا اصطناع ولا تكلف ولا مساحيق تجميل! جاءوا واستمتعوا بلقاءاتهم ومناقشاتهم وأمضوا أوقاتا لا أظن أنهم ينسونها وكلهم يبدى محبته لمصر وقيمتها ومكانتها الحضارية والتاريخية.
ــ 4 ــ
لقد تعودت كل عام مع انطلاق معرض القاهرة الدولى للكتاب تدوين ما أسميه «يوميات المعرض»، أسجِّل وبكل دقة تفاصيل ومشاهدات كل يوم فى المعرض، مقابلات الأصدقاء وما دار فيها، الفاعليات التى حضرتها أو شاركت فيها أو أدرتها، ومنها ندوتان أعتبرهما من أهم ندوات المعرض وفعالياته الثقافية؛ الأولى عن طه حسين وناصر الدين الأسد بحضور نخبة من الأصدقاء المثقفين الأردنيين، والثانية بصحبة المؤرخ الكبير والقدير الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق للحديث عن إصدار طبعة جديدة من المجلة النهضوية التاريخية العريقة مجلة الزهور التى كانت تصدر خلال الفترة (1910ــ1913) عن دار المعارف بالقاهرة، وكان يرأس تحريرها أنطوان الجميل.
وأخيرا أسجل وبكل دقة معلومات وملاحظات وانطباعات عن الكتب التى اقتنيتها أو كنت حريصا على اقتنائها ولا أفوتها، وإشارات سريعة عنها أو عن السبب الذى جعلنى أقتنيها. كل ذلك داومت على كتابته لسنوات طويلة، وما زلت أحتفظ به حتى اللحظة، أما هذا العام فقد لجأت إلى أسلوب التسجيل الصوتى لمواكبة كل ما يمر أمامى حتى لا تضيع تفصيلة هنا أو هناك، أو ملاحظة عابرة تسترعى الانتباه وتثير التأمل... إلخ.
ــ 5 ــ
كتبت ما يقترب من كتيب صغير عن حصاد جولات هذه الدورة والكتب التى اقتنيتها. ببساطة، شعورى بمعرض الكتاب هذا العام مختلف فعلا، أشعر بألفة عميقة جدّا مع كل تفصيلة فيه، ومهما كان لدينا من ملاحظات أو هنات على أمور تنظيمية أو إجرائية هنا أو هناك فإننا لا نملك إلا الاعتراف بأن معرض الكتاب هذا العام قد نجح نجاحا يستوجب الفرح والفخر، وأن تكون بلدنا فى كل ما تنظمه من مناسبات وأحداث كبرى على هذا المستوى، وأن تحقق هذا النجاح الرائع الكبير.. وكل معرض كتاب وأنتم بخير.