لا شك أن الأحداث العالمية الكبيرة التى تمر بها معظم بلدان الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، والتى من المتوقع أن تؤدى إلى إعادة تشكيل العالم، وتحوله من سيطرة القطب الواحد إلى أقطاب متعددة، دعت الجميع لعمل مراجعة للذات على أحداث الماضى، ومن أهمها إعادة تصحيح مفاهيم وقناعات سابقة أشعلت أفكار التطرف والتعصب التى سادت الكون بأثره، خاصة فيما عُرِف بـ«الإسلاموفوبيا»، أو كراهية الإسلام، علما بأن مقطع «فوبيا» (Phobia) من أصل يونانى، ويعنى «الخوف»، أى الخوف من الإسلام ومن المسلمين عامة!
ولعل أكبر دليل على ذلك أن اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها السادسة والأربعين (22 فبراير ــ 19 مارس 2021) طلبا تقدمت به باكستان بالنيابة عن منظمة التعاون الإسلامى باعتبار 15 مارس اليوم العالمى لمكافحة «الإسلاموفوبيا»، ومن الواضح أن هذا التاريخ أُختير بعناية لأنه يوافق اليوم الذى تم فيه التصويت فى البرلمان الفرنسى على منع ارتداء الحجاب فى المدارس!
أصدرت الجمعية العامة قرارا بالإجماع شددت فيه على أن الإرهاب والتطرف لا يمكن ولا ينبغى ربطهما بأى دين أو جنسية أو حضارة أو جماعة عرقية، ودعا القرار أيضا إلى تشجيع إقامة حوار عالمى بشأن تعزيز ثقافة التسامح والسلام على جميع المستويات، استنادا إلى احترام حقوق الإنسان وتنوع الأديان والمعتقدات، كما أصدرت الأمم المتحدة بيانا فيه مبادئ توجيهية للمعلمين بشأن معالجة التعصب والتمييز ضد المسلمين، وُضِعت بالتعاون بين مكتب المؤسسات الديمقراطية التابع لمنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا ومجلس أوروبا ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
وتنفيذا لهذه القرارات، احتفلت الأمم المتحدة لأول مرة بهذه المناسبة فى تاريخها المحدد 15/3/2023، وبعد اندلاع الحرب الروسية/الأوكرانية 24/2/2022، وربما فى هذا أيضا دلالة على أن كل الحروب التى قامت فى أوروبا، وعلى رأسها الحربين العالميتين لا علاقة لها بالمسلمين، وبمناسبة هذا الاحتفال ألقى أمينها العام أنطونيو جوتيريس خطابا، عبَّر فيه عن خطأ مفهوم «الإسلاموفوبيا» الذى اجتاح العالم لسنين طويلة، حيث أخذ هذا المفهوم ذروته بعد انهيار بُرجى التجارة العالمية فى الولايات المتحدة فى 11 سبتمبر 2001، والذى تبناه أسامة بن لادن، وأدعى أنه أدار معركته ضد البرجَيْن والبنتاجون من كهفه بجبال بورا بورا فى أفغانستان!
• • •
كان خطاب الأمين العام للأمم المتحدة كاشفا، أشار فيه إلى أن التمييز ضد المسلمين جزء من تيار أوسع لعودة ظهور القومية العرقية والنازية الجديدة وخطاب الكراهية الذى يستهدف الفئات السكانية الضعيفة بما فى ذلك اليهود وبعض الأقليات المسيحية وخاصة المسلمين، مؤكدا أن القرآن الكريم يذكرنا بأن الشعوب والقبائل خُلقت لتتعارف، وأن التنوع ثراء وليس تهديدا!
كما أكد أنطونيو جوتيريس على خطورة تعميم «الإسلاموفوبيا» التى تَعتَبر المسلمين «آخرين» من المنظور الثقافى، فقد أدت التصورات المغلوطة والمنتشرة والصور النمطية المسيئة إلى تطبيع التمييز، وبالتالى العداء والعنف تجاه المسلمين، أفرادا وجماعات، وعليه سادت العالم قوانين وسياسات وممارسات وكذلك أفكارا نمطية وعبارات مجازية مؤذية تصور المسلمين ومعتقداتهم وثقافاتهم على أنها تهديد للقيم الغربية، وتؤكد الأحداث العدائية والإرهابية فى العقود الأخيرة فى الغرب وجهة نظر جوتيريس، فقد شاهدنا فى بعض الصحف الأوروبية رسوما كاريكاتورية تُسىء لنبى الإسلام ﷺ، ورأينا أيضا جماعات فى أوروبا يحرقون المصاحف، ووجدنا كذلك أفرادا يقتلون بريئات لمجرد أنهن يرتدين زيا نَسَبَه البعض حديثا للإسلام، كما ترفض مؤسسات أوروبية تعيين مسلمين فى وظائف بها رغم حملهم جنسيات مواطن هذه المؤسسات..!
لم يكتف الأمين العام للأمم المتحدة بقرار الجمعية العامة لكشف التشويه الذى لحق بالإسلام، والظلم الذى وقع على المسلمين لتحجيم الكراهية ضدهم بل أكد ــ فى خطابه 15 مارس 2023 ــ أن كلمة الإسلام تأتى من السلام، وأن رسالته الحاملة لمعانى السلام والرحمة والإحسان ظلت منذ أكثر من ألف عام تُلهم الناس فى جميع أنحاء العالم، كما استند فى هذا الصدد إلى الآية القرآنية: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ...» (التوبة:6)، وأشار إلى أن هذه الآية نزلت قبل أن تصدر مواثيق حق اللاجئين والأسرى بمئات السنين!
وفضلا عن ذلك، فقد اعترف الأمين العام بالتمييز والكراهية الصريحة تجاه المسلمين، والتى وصلت إلى أبعاد وبائية، وقال إن الدول التى يمثلون فيها أقلية، غالبا ما يتعرضون للتمييز فى الحصول على السلع والخدمات، وفى العثور على عمل وفى التعليم، وفى بعض الدول يُحرَمون من الجنسية أو من وضع الهجرة القانونى بسبب تصورات معادية للمسلمين باعتبارهم يمثلون تهديدات للأمن القومى والإرهاب، كما يتم استهداف النساء المسلمات بشكل غير متناسب فى جرائم كراهية الإسلام!
• • •
تلك دلالات واضحة على بداية انحسار موجة الكراهية ضد الإسلام، وللحقيقة، فإن المسلمين أنفسهم كانوا من أسباب هذه الموجة التى بُنيت على الجهل الذى يُعتبر أول ركائز التعصب والتطرف، وبالتالى العنف، فكثيرا ما ركَّز الخطاب الإسلامى الدعوى على الآية الكريمة التى اقتطعوها من سياقها الكامل فى القرآن الكريم، والتى دعَّمها أعداء الإسلام: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْۚ» (الأنفال:60) .
لقد فسَّر المتطرفون التعبير الإلهى «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» على أنها دعوة لإرهاب الآخرين، بينما المقصود منها «الردع»، وذلك لسببين، الأول: أن كل الدول حاليا تسعى لامتلاك السلاح النووى، ليس لاستخدامه وإنما لردع العدو حيث أن استخدام هذا السلاح فيه فناء للجميع، والسبب الثانى يُدعم الأول، فالآية التالية (رقم 61: الأنفال) «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» تدعو لتلبية السلام فى حال «ارتداع» العدو، كما أن دعوات عدم الاعتداء على الآخرين كثيرة فى القرآن الكريم!
إن الإسلام لا يمكن معرفة فحواه وأهدافه من خلال آية واحدة ذُكرت ضمن أكثر من ست آلاف آية كونت المفهوم الكامل لرسالته ومقاصده، ألا وهى «الرحمة» و«العدل» و«الصفح»...، جاءت جميعها فى وصف الذات الإلهية، كما نزلت آيات كثيرة تأمر المسلمين بعدم الاعتداء والمحافظة على العهود والمواثيق وإن كانت مع الأعداء، ومن المؤكد أن الآية: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:107) تُبرز الهدف الرئيسى لرسالة الدين الإسلامى!
• • •
لعل أدق ما يُعبر عن هذا التحليل هو ما حدث للكاتب الفرنسى مونتسكيو (1689ــ1755) ــ أحد أهم فلاسفة التنوير فى القرن الثامن عشر، وأهم من دافع عن حقوق الإنسان والمساواة بين الجميع، وأكبر مُعارضى التمييز العنصرى المبنى على العرق أو الأصل أو الدين أو اللون..، فقد كتب فى أهم كتبه «روح القوانين» (1748ــ (De l'esprit des lois عن العبودية: «إنه من المستحيل أن نعتبر الزنجى (nigger) إنسانا لأننا إذا افترضنا أن الزنوج أناس فإننا بذلك سنعتقد أنفسنا غير مسيحيين» (الجزء 3 الباب 15 الفصل 5) !
كما اقتطف القاموس المختصر للتجارة (Dictionnaire portatif du commerce 1762) عبارة أخرى فى نفس الفصل من نفس الكتاب السابق حيث كتب مونتسكيو وكأنه يُشرع لاستخدام الزنوج فى زراعة القصب دون أجر: «أبادت الشعوب الأوروبية شعوب أفريقيا بسبب تسخيرهم فى زراعة الأراضى الشاسعة، وذلك لأنه لو لم نزرع قصب السكر بأيادى العبيد لكان السكر سيباع بأسعار باهظة»!
وللأسف، التقط الرأسماليون ورجال الأعمال والإقطاعيون هذا النص ليحتجوا به فى تشريع العبودية وتسخير المزارعين السود للعمل دون أجر، وهذا يُعتبر مثالا آخر لاقتطاع الكلمة أو التعبير من سياقه مثل «ولا تقربوا الصلاة»، وكان على مؤلفى «القاموس المختصر للتجارة» أن يعرفوا أهداف مونتسكيو من كتابه السياسى «روح القوانين»، فقد دافع فيه عن الدستور ومبدأ فصل السلطات و«إلغاء الرق»، والمحافظة على الحريات المدنية والقانون، وأن تعبيراته السابقة لا تُفهم إلا باعتبارها «سُخرية» ممن يطبقونها، ذلك أنها جاءت «متباينة»، أو «مفارقة» للهدف الرئيسى لكتاب «روح القوانين»، و«السخرية» (Irony) هى أن تقول عكس ما تقصد، كأن تصف طالبا غبيا بأنه «ذكيا جدا»!
ومن هنا، يتضح لنا أن أصحاب القاموس التجارى كانت لهم مصالح اقتصادية فى احتجاجهم بتعبير متناقض مع مُجمل النص الكلى أو ضد مقاصد المؤلف، فاستغلوا «ازدواجية» المعنى للكلمة أو التعبير(ambiguity)، واختاروا المعنى الذى يتناسب مع مصالحهم، هذا بالضبط ما حدث مع تفسير الآية 60 من سورة الأنفال التى فُسِّرت خارج سياقها العام فى القرآن الكريم، فالله «الرحمن الرحيم» لا يمكن أن يدعو لإرهاب الآمنيين لأنه يعتبر النفس البشرية أقدس الأقداس، فالله سبحانه وتعالى لم يُحرِّم قتل الغيْر فقط كما جاء فى قوله تعالى: «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا» (المائدة:32) ، ولكنه حرَّم أيضا قتل الإنسان لنفسه «الانتحار» باعتبار أن النفس ملك لله، والاعتداء عليها اعتداء على الله، وهذا عكس ما يعتقده الفلاسفة الغربيون المعاصرون!
وختاما، نقول أنه كما انكشفت أغراض الرأسماليين المستغلة فى القرن الثامن عشر، وتَعَرَّت أهدافهم، فاليوم أيضا بدأت تنكشف الأغراض السياسية الخبيثة لمناصرى «الإسلاموفوبيا»، والدلالات بدأت تقوى بعد اندلاع الحروب فى الغرب، وتهديدهم للسلم العالمى باستخدام السلاح النووى، والذى ليس للمسلمين فيه ناقة ولا جمل!