الرواية التاريخية لكفاح المصريين للحفاظ على تراثهم.. البدايات الصعبة - خالد عزب - بوابة الشروق
الأربعاء 5 نوفمبر 2025 10:11 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

الرواية التاريخية لكفاح المصريين للحفاظ على تراثهم.. البدايات الصعبة

نشر فى : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:05 م

يُعد سرد الرواية التاريخية لعلم الآثار سردًا لتطور وعى المصريين بحضارتهم وتاريخهم، ومدى إدراكهم لدور الأثر فى تشكيل الهوية الوطنية. وهنا نرى جدالًا وشدًّا وجذبًا، بل قلقًا مُثارًا ورغبةً عارمةً فى الحفاظ على التراث الوطنى، وتبلورًا نحو بناء علم للآثار فى مصر، وقصورًا هنا وهناك، وومضات مشرقةً هنا وهناك.
وعبر سلسلة من المقالات، نقدم سردية تهدف إلى بناء رؤية لعلم الآثار فى مصر مرتبطة بتطور النظر إلى الآثار ودورها فى صياغة الهوية الوطنية.

 


يعتبر المشهد الآثارى فى مصر مشهدًا متشعبًا ومعقدًا ومركبًا، يعكس طبيعة مصر نفسها، فهو قديم قِدمَ الزمن، وحديث بدأ مع الحداثة المعاصرة. وبناءً على ذلك، فإن الباحث يذهب إلى تقسيم الفضاء الآثارى فى مصر إلى:
• علم المصريات، الذى يتناول مصر من عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية العصر البطلمى.
• علم الآثار الرومانية البيزنطية، الذى يبدأ بالاحتلال الرومانى لمصر حتى الفتح العربى.
• علم الآثار الإسلامية، الذى يبدأ مع الفتح العربى لمصر حتى نهاية عصر أسرة محمد على.
ولا بد من التنويه فى البداية إلى أن المقصود بعلم الآثار هو العلم الذى يقدم الإطار الفلسفى وتاريخ العلم الآثارى، ويتناول طبيعة هذا العلم والتطورات المتلاحقة فيه. وهو يتداخل مع بناء الدولة الوطنية فى مصر، التى يبدأ التأريخ لها مع تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805م، وإن كان البعض يؤرخ لعلم الآثار منذ الحملة الفرنسية على مصر، غير أن الفرنسيين عملوا لصالح بلادهم، وإن كان إسهامهم فى مجالات الآثار كافة لا يُنكَر، إلا أنهم حفّزوا على نهب تراث مصر. لكن عناية الفرنسيين بالآثار أثارت اهتمام المصريين وساهمت فى بناء علم المصريات، وكان للنخبة الوطنية التى تعلمت فى أوروبا دور فى الحفاظ على آثار مصر ودراستها.
وتجلّى وعى النخبة المصرية من خلال كتاباتها التى بدأت بصورة محدودة فى مجلة روضة المدارس التى كان يصدرها رفاعة الطهطاوى من ديوان المدارس، فقد حمل الطهطاوى وعيًا مبكرًا بأهمية التراث الوطنى، ومصداق ذلك قوله:
"إذ هى زينة مصر، ولا يجوز تجريد مصر من حليتها التى تجلب إليها المتفرجين من سائر بلاد الدنيا".
ولا شك أن رفاعة الطهطاوى كان بذلك يوجّه نقدًا إلى محمد على لموافقته على نقل مسلّة مصرية إلى فرنسا لتنصب فى ميدان الكونكورد بباريس. ويُعتبر هذا النقد من النوادر التى صدرت عن رجال دولة محمد على له.
كان رفاعة الطهطاوى من أوائل النخبة المصرية التى اهتمت بتاريخ مصر القديمة، ليقدم لنا سردًا تاريخيًا مختلفًا لأول مرة عمّا سبقه من مرويات باللغة العربية حول تاريخ مصر فى عصور ما قبل الإسلام، وذلك فى كتابه أنوار علوى الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل. ومن الضرورى أن نشير إلى أن تقييم هذه السردية حول تاريخ مصر قبل الإسلام ينبغى أن يأخذ بعين الاعتبار سياق العصر الذى جرى فيه إنتاجها.
ويبقى تعامل الدولة مع الآثار حاسمًا فى الحفاظ عليها وفى اكتشاف الذات الوطنية فى ضوء مكتشفات هذا العلم. يشير أمر أصدره محمد على باشا فى 29 أكتوبر 1835م إلى أن حاكم مصر فى بدايات القرن التاسع عشر كان له اهتمامٌ بالآثار، إذ يشدد محمد على فى هذا الأمر على تعليماتٍ سابقة فى هذا الشأن، بل نرى أن الأمر يوضح وجوب إرسال مشايخ النواحى ما لديهم إلى مدرسة الألسن لدى رفاعة رافع الطهطاوى، مع إرسال صورة من القائمة إلى ديوان الوالى.
هنا نرى بدايات فكرة الحصر والتسجيل التى تأتى فى السياق البيروقراطى للدولة المركزية المصرية، لنجد مشروعًا لمتحف مصرى أُسنِد تصميمه إلى يوسف حككيان (1807-1875)، وهو مهندس أرمنى كان والده يشتغل ترجمانًا لمحمد على.
كان يوسف ضياء أفندى أولَ مسئول مصرى يعنى بالحفاظ على الآثار من الحفر خلسة، وعيّن له ممثلين فى الأقاليم لدعمه فى التفتيش على المواقع الأثرية. هذه الجهود الأولى لم يُبنَ عليها جيدًا، إذ كان نهب الأوروبيين لتراث مصر أكبر مما يُتخيَّل الآن، فضلًا عن أن عدم إدراك الدولة أدى إلى إهداء أولى مقتنيات المتحف المصرى لاحقًا للأوروبيين.
إن إشكالية الآثار كعلم تقوم على أن له شقًّا عمليًا تطبيقيًا، إذ دون حفائر لا مكتشفات تقود إلى الجديد، وبدون متحف لن تُحفَظ المكتشفات وتُدرَس، وبدون مواقع وبنايات أثرية لن نعرف الطرز المعمارية وتراث الأقدمين. لذا، فإن تطور الرواية التاريخية للآثار المصرية تطوّر بشكل ملازم لتطور بنية الحفاظ على الآثار وبنائها.
فى عهد عباس حلمى الأول (1848-1854) نرى بعدًا آخر فيه إدراك لماهية الآثار بالنسبة لمصر، إذ نص أمر صدر من مجلس الأحكام فى 10 مايو 1849م على ما يلى:
«إن الآثار القديمة الموجودة بالأراضى المصرية توجب الافتخار وتزيين البلاد، وسببًا للاستكشاف والاطلاع على الأحوال الماضية، ولزومًا حفظهم ووقايتهم».
لنرى أن فى عصر عباس حلمى الأول كانت هناك خطوة أخرى، متأخرة أيضًا، فى إدراك أهمية الحفاظ على البنايات القديمة والتلال الأثرية، مع البدء فى حفظ سجلات بها لدى الدولة. لكن القول فى الأمر بالافتخار كان يعنى أن هناك تسربًا بدأ تأثيره يظهر بأهمية تاريخ مصر قبل الإسلام، وأن فى هذا التراث إنجازًا يستحق الاهتمام.
وقد اتُّخذت خطوة أخرى مهمة فى مسلسل مأسسة العمل الأثرى بتعيين أوغست مارييت (August Mariette) (1821-1881) فى وظيفة «مأمور أشغال العاديات» فى مصر، وليبدأ فى تشييد متحف للآثار افتتحه الخديو إسماعيل فى 18 أكتوبر 1863م.
كان هذا نتاجًا لضغط حدث من النخبة المصرية التى تبلور دورها فى وظائف عليا بالدولة المصرية، مما جعلها مؤثرةً فى اتخاذ القرار، خاصة أنها كانت تمتلك وعيًا وإدراكًا قويين بماهية مصر، نتيجةً للاكتشافات الأثرية وتزايد حجم المعارف عن مصر القديمة. ويبرز من هذه النخبة بصورة أساسية على باشا مبارك (1823-1893)، الذى تقلد العديد من المهام ذات الصلة بالبنايات الأثرية، حيث كان وزيرًا لمرات متعددة فى «قطاع الأعمال العام» ووزيرًا للأوقاف. ويكشف كتابه الخطط التوفيقية عن أول حصر للتلال والمواقع الأثرية فى مصر، كما نرى بين فقراته إلمامًا بالنظر إلى تاريخ مصر وآثارها الفرعونية. كما كان لعدد قليل من الأوروبيين والأمريكيين دور فى ذلك.

خالد عزب  مشرف علي برنامج ذاكرة مصر المعاصرة
التعليقات