بلغت الدولة العباسية أشدها حتى منتصف الأربعينيات من القرن التاسع الميلادى، قبل أن تبدأ فى الأفول والتشرذم والتدهور لينتقل المسلمون إلى الحقبة الثانية من العصر العباسى والتى كانت كثيرة الاختلاف عن العصر الأول الذهبى من حيث السلطة والعلم والحضارة.
كانت النهضة العلمية فى العصر العباسى الأول والتى بلغت أوجها فى عهد الخليفة المأمون هى أهم عنوان لهذه المرحلة، الانحياز للعلم والفلسفة والإبحار فى العلوم الطبيعية والتطبيقية كما العلوم الاجتماعية والإنسانيات، الانفتاح على الثقافات الأخرى والنهل والاستفادة منها دون تحفظ، كلها كانت من ثوابت وأعمدة هذه النهضة العظيمة. حينما توفى الخليفة المأمون فإنه وعلى عكس المتوقع فقد ترك وصية تولى أخيه المعتصم ــ وليس ابنه العباس ــ الخلافة من بعده.
ورغم أن بعض المقربين والجنود قد ترددوا فى البداية فى تنفيذ وصية المأمون، إلا أن العباس قد حسم الجدل بمبايعة عمه لتنتهى الفتنة سريعا ويتولى المعتصم رسميا شئون الدولة العباسية قبل أن تدور لعبة السلطة ويخشى المعتصم لاحقا من مؤامرات محتملة من ابن أخيه العباس ليأمر بحبسه ومنع الماء عنه حتى قضى العباس نحبه عطشا!
كانت أهم التحديات التى واجهها المعتصم هو الميراث المعتزلى الذى كان قد تركه له أخوه المأمون، فالأخير ولولعه بالفلسفة وبالعلم وبإعمال العقل، فقد قرب فرقة المعتزلة منه وجعل من بيت الحكمة مركزا لأفكارهم وفلسفتهم التى ترى أن القرآن محدث (مخلوق) وليس أزليا وتطالب بإعمال العقل والانتصار له فى فهم النصوص القرآنية. كان لهذه الفرقة أثر كبير فى الفلسفة الإسلامية التى يعمد الكثيرون فى عصرنا هذا إلى تهميشها رعبا من نتائج مختلفة تضرب فيما يعتقد أنه من «الثوابت»! رأى المعتزلة أن الأصل هو عدل الله، وما يتعارض عقليا مع عدل الله يجب رفض الأخذ به! ونظرا لانتشار الأحاديث الموضوعة والمكذوبة فى العهد العباسى الأول، فقد رفض المعتزلة عددا كبيرا من الأحاديث لتعارضها مع العقل أو العدل أو كلاهما، كما رفضوا حد الرجم وحرموا نكاح الصغار ــ وكان قد انتشر فى العهدين الأموى والعباسى ــ بالإضافة إلى إنكارهم فكرة الشفاعة ورفضهم لفكرة أولياء الله الصالحين إلى آخره ممن يطلق عليه «ثوابت»، كما رفض بعضهم أن يكون الإجماع حجة فى الشرع!
انتظر الكثير من العلماء أن ينهى المعتصم الفكر المعتزلى ولكنه وعلى العكس انحاز للمعتزلة كما فعل المأمون وفى ذلك يلاحظ تحيز الكتابات العربية التى تناولت العصر العباسى ضد المعتصم حيث يتهمه البعض بمحدودية العقل والفهم والثقافة للقول بتقليده للمأمون فى تأييد المعتزلة، إلا أنه لا يوجد أى دليل على هذه الاتهامات، فالمعتصم كما المأمون كانوا من أنصار إعمال العقل فى فهم القرآن كما كان من المولعين بالفلسفة الإسلامية. والحقيقة أن فلسفة الفكر المعتزلى ظلت منتشرة حتى بعد وفاة المعتصم وتولى ابنه الواثق بالله، ولم يتم محاربتها والقضاء عليها سوى مع الخليفة المتوكل فى بداية العصر العباسى الثانى حيث قام الأخير بالانتصار لأهل الحديث.
لم يكن التحدى الوحيد أمام المعتصم هو تحدى المعتزلة، ولكن كان أمامه عدد كبير من التحديات العسكرية الأخرى لمواجهة الثورات الداخلية والتهديدات الخارجية مثل ثورة الهنود الزط فى جنوب العراق، ثم ثورة الفرس فى وسط آسيا، ثم مواجهته الأصعب مع البيزنطيين فى عمورية بالأناضول والتى حقق فيها انتصارات عسكرية مبهرة عززت قوة الدولة العباسية فى عهده وعززت من أسطورته وخصوصا انتصاره لمناجاة المسلمين «وامعتصماه» والتى أصبحت إحدى علامات مناجاة المسلمين وحنينهم إلى عصور الحضارة والانتصار!
كانت سياسة المعتصم الحربية هى الاعتماد على الجنود الأتراك لما عُرف عنهم من مهارات حربية ورباطة جأش، كما أن ميله للعنصر التركى بحسب بعض المؤرخين يرجع إلى أن أمه كانت تركية وعلى أى حال فإن المؤكد أن المعتصم أراد أن يحدث تغييرا ديموغرافيا فى تركيبة الجيش ولاحقا الحكومة من أجل التقليل من النفوذ الفارسى والعربى، فوجد ضالته الجديدة، توسع بشدة فى استقدام الجنود الأتراك حتى أصبح لهم سطوة كبيرة فى بغداد ثم نقل الخليفة مقره إلى سامراء والتى أصبحت معقلا للأتراك فى عهده. كما أنه مكن الأتراك من الجيش المصرى فأصبح لهم اليد العليا هناك على حساب العرب، ظن المعتصم أن الأتراك لن يكون لهم الكثير من الطموح السياسى، وهو ظن خاطئ بلا شك تسبب لاحقا فى تشرذم الدولة العباسية على يد المماليك الأتراك! ثم توفى المعتصم مريضا فى ٨٤٢.
خلفا للمعتصم تولى ابنه الواثق بالله وحكم حتى وفاته فى ٨٤٧ ورغم قصر فترة حكمه إلا أن أبرز إنجازاته هو أنه أعاد سياسة محاسبة الولاة ومساءلتهم حتى أنه قد صادر أموال الكثير منهم وعزل البعض الآخر، كما أنه قد بدأ تدريجيا فى التضييق على المعتزلة وإكمال إخماد الثورات الداخلية. ثم تولى الخليفة المتوكل ليبدأ عصر تدهور الدولة العباسية بفعل عاملين اثنين مهمين، الأول هو استمرار سياسة تمكين الجنود الأتراك من الدولة الإسلامية حتى أصبح بعض الولاة من الأتراك، والثانى هو بداية تدهور عصر النهضة والعقل والتى بدأت على يد المتوكل، فتم محاربة المعتزلة والقضاء عليهم، كما تم القضاء على الكثير من التيارات الفكرية والحركات الثقافية تحت دعوى البدع والإحداث، وبالتوازى تم قمع الشيعة أيضا وتم الحكم على أى من يتطاول على الصحابة أو أمهات المؤمنين بالجلد حتى الموت، فضلا عن تراجع المنبر الأهم وهو بيت الحكمة عن القيام بدوره التقليدى كمنارة للعلم والثقافة والحوار، تم محاربة الفلسفة وعاد الاهتمام بالعلوم الشرعية ليطغى على الاهتمام بالعلوم التطبيقية، ليتحول العباسيون من مرحلة العقل إلى مرحلة النقل وتبدأ انتكاسة حضارية وسياسية للخلافة العباسية استمرت لقرون. صحيح أن سياسة المتوكل هذه مازالت تحوز على إعجاب البعض حتى اللحظة، إلا أنها فى الواقع لم تكن سوى وبال على الخلافة العباسية لأنها أعادت الإسلام إلى مرحلة النقل بعد عقود من اعتماد العقل، كما أنها قامت على نشر الفكر السياسى والدينى الأوحد وكلها أمور سريعا ما قادت الدولة الإسلامية للتفكك.
فى مصر حكم الوالى التركى أحمد بن طولون الذى درس فى سامراء وترقى فى الجيش العباسى حتى وصل إلى مرتبة قائد الحرس الخلافى ليقيم أول دولة إسلامية مستقلة فى مصر ومنطقة الشام ووصل نفوذه أيضا إلى ليبيا غربا. حاول ابن طولون الحفاظ على علاقة طيبة مع الخلفاء العباسيين الذين كانوا فى حروب متواصلة مع موجة جديدة من الثورات الداخلية فى العراق وبلاد الفرس، فبدأ تدريجيا فى بناء الجيوش والمدن ليؤسس الدولة الطولونية فى مصر والشام وبعدها أخذت الدول المستقلة عن الخلافة العباسية فى تزايد، فنشأت الدولة الإخشيدية والطاهرية والصفارية والسامانية وهو ما مثل حقبة جديدة فى الخلافة الإسلامية أتناولها فى مقالة لاحقة.