جمال حمدان هو الوحيد الذى حول علم الجغرافيا من علم أصم إلى سيمفونية رائعة يتذوقها الجميع ويحبونها.
وكان يرى أن الجغرافيا هى أصل الحياة وفنونها وعلومها، فلا ثقافة ولا سياسة ولا تاريخ ولا عمران ولا اقتصاد بلا جغرافيا، وكان يرى أن الجغرافيا هى الحياة.
وقد كتب قبل رحيله منذ «27 عاما» بعض المذكرات التى دونها بقلمه ولم تنشر إلا بعد وفاته عن طريق د/عبدالحميد صالح حمدان والذى كان أمينا فى نشر أوراقه بصورها وخط يده.
وبمناسبة الانتخابات الأمريكية القادمة وما أحدثه ترامب من تغيرات جذرية فى الشأن الأمريكى يسعدنى أن أسوق بعض الآراء المهمة للعبقرى د/جمال حمدان التى تمثل رؤيته لمستقبل أمريكا، والتى تلمس فيها كيف كان يقرأ المستقبل بحق وهذه بعض كلماته:
الولايات المتحدة وهى كما قلنا مرارا بريطانيا القرن 20 تمر بنفس المرحلة التى كانت عليها بريطانيا منذ أواخر القرن 19 نحو أعوام 1870/1880 وما بعدها حتى الحرب الأولى.
ويقول: «الآن تصارع الولايات المتحدة للبقاء على القمة ولكن الانحدار تحت أقدامها سارٍ وصارم».
ويردد: «أمريكا تختلف عن أوروبا الرأسمالية فى أنها قمة الرأسمالية والرأسمالية العليا العاتية «السوبر رأسمالية»، المهم أنها تختلف عن أوروبا فى أنها وإن كانت قمة الطبقية المطلقة العاتية إلا أنها أيضا قمة الحراك الاجتماعى والسيولة الطبقية المطلقة، الفارق بين المليونيرات والصعاليك رهيب لا مثيل له فى العالم الرأسمالى ومع ذلك ممكن لكل صعلوك أن يحاكى وبالفعل يصبح مليونيرا، هذا بالضبط هو الحلم الأمريكى وهو ما يميز أمريكا عن أوروبا سليلة الإقطاع والرجعية والطبقية».
ويقول: «أمريكا أول دولة إمبراطورية على مستوى الكوكب حجمها هو أول حجم يتناسب مع حجم الكوكب ككل».
ويردد «ديمقراطية أمريكا المزعومة التى تتباهى بها على العالم حتى على أوروبا وتعتبرها مثالية وتجسيد المثالية الأمريكية المدعاة، فعلا كانت سابقة لعصرها فى وقتها، ولكنها الآن متخلفة تماما عن عصرها تنتمى إلى القرن 18 وتحتاج إلى نسف لا أقل».
أمريكا بدأت تعامل العالم الخارجى كما تعاملت مع الهنود الحمر فى الداخل: الإبادة والإرهاب الرسمى الشرعى.
ويستشرف المستقبل بقول: «بدأت الحرب الباردة بالفعل بين شاطئ الأطلسى، بين أوروبا وأمريكا».
ويقول: أصدقاء الأمس سيصبحون أعداء الغد بمثل ما قد أصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم.
ويرى أن«أمريكا هى «سرطان العالم السياسى» لا تنطبق صفة السرطانية على شىء فى الدنيا كما تنطبق على أمريكا، كل خصائص ومشخصات وأعراض السرطان تنطبق عليها كما لا تنطبق على أى شىء آخر سوى الجسم الإنسانى».
وعن الحياة الأمريكية يقول: طريقة الحياة الأمريكية كما يسمونها ما هى؟ هى الهستيريا الحياتية طريقة حياة أمريكا هى هستيريا دائمة سعار مستمر، مركز ومصدر ومحرك وموجه هذه الهستيريا الوطنية هو الإعلام: الإعلام الأمريكى، والشعب الأمريكى قطيع قائده الإعلام، وهو حاكم أمريكا الحقيقى حتى الإدارة والحكم ينقاد لموجات الإعلام العاتية ويخضع لإشعاعاتها الضارة إن عفوا أو عمدا.
ويرى هذه النتيجة «ولما كانت إسرائيل هى التى تحكم الإعلام الأمريكى الذى يحكم العقل الأمريكى فإن إسرائيل هى الحاكم النهائى والأخير والحقيقى للدولة الأمريكية».
ويردد «ولولا خطر الهيمنة والتسلط والاستعلاء الأمريكى لما توحدت أوروبا سياسيا، إنها رد فعل أكثر منها منطقا طبيعيا، إنها سياسية أكثر منها جغرافية وإن فرضت نفسها فى النهاية كجغرافيا سياسية».
ويقول: «أمريكا تدعى المثالية السياسية فى كل مجال وترى أنهم أشراف وأطهار وأنبياء العفة السياسيا فى العالم وعبر التاريخ.. إلخ وقد «فلقوا» العالم بحديثهم وحواديتهم عن حقوق الإنسان وعدم الاستعمار.. وإلخ والعكس تماما هو ما يفعلون ولكن ما من قوة على الأرض يمكن أن تقنعهم بذلك».
ويقول: «الغذاء الداخلى الجديد لأمريكا لم يعد الكاريبى ولا أمريكا اللاتينية، إنما الوطن العربى».
ويرى أن: «أمريكا دولة الشذوذ السياسى العظمى فى العالم».
ويقول: «ما الذى دهى العالم؟ لم يحدث قط من قبل أن ظهرت قوة إمبريالية طاغية مستبدة مفتونة بقوتها ومجنونة بالقوة والغطرسة العلنية على العالم كله كما حدث من أمريكا اليوم، وفى الوقت نفسه لم يحدث قط أن استكان العالم كله وسكت ورضخ وخضع فى هوان وذلك حقير كما يحدث الآن، كانت الستينيات روح الصراع والتحدى، والآن التسعينيات موت الروح وروح الموت».
أما رأيه فى الصراع فهو: الصراع أبدى دائم طوال التاريخ على كل المستويات ومتعدد الأبعاد والجوانب، صراع أجناس + صراع شعب + صراع دول وقوميات + صراع طبقات + صراع فردى بحت، والكل يتداخل وإن برز أحده فى حالة بعد أخرى، والذى حدث ليس نهاية التاريخ، وإنما«نكسة التاريخ»، نعم لقد انتكس التاريخ وتقهقر إلى الوراء قرونا أو عقودا على الأقل، لكن هكذا هى حركة التاريخ طوال التاريخ تقدم فتقهقر، خطوة إلى الخلف ليقف خطوتين إلى الأمام فلا بأس.
ويقول: انتهت الحرب الباردة بين الغرب والشرق بسقوط السوفييت، فبدأت الحرب الباردة بين الغرب والعالم الإسلامى «وعموما العالم الثالث» الحرب الباردة مستمرة ولكن بصورة أخرى مع عدو جديد.
ما حدث للاتحاد السوفيتى «المرحوم» سيحدث لأمريكا: السقوط من الداخل وإعلان الاستسلام والهزيمة مع الفوارق طبعا.
هذه الخواطر تركها العلامة د/ جمال حمدان منذ أكثر من 27 عاما بخط يده ولم يسعفه الوقت لصياغتها صياغة نهائية بأسلوبه الرائع وأرى أن أكثر ما فى هذه الكلمات صادق ووقع أو سيقع، رحمه الله رحمة واسعة.