أصدر منتدى الاقتصاد العالمى بجنيف تقريره عن المخاطر المحيطة بالعالم فى طبعته الثالثة عشر لسنة 2018. التقرير يرصد عددا من المخاطر التى يتعرض لها كوكب الأرض ويضعها بداية فيما نسميه «مصفوفة السخونة» حيث يتم تصنيف تلك المخاطر من حيث احتمالية الحدوث، والأثر المتوقع حال حدوثها. كلما زاد احتمال وقوع الخطر وزادت حدة الأثر المتوقع لدى حدوثه وقع تصنيف الخطر فى المنطقة شديدة السخونة وظللت باللون الأحمر، وفى حال تراجع الاحتمال والأثر المتوقع معا كان تصنيف الخطر فى المنطقة الخضراء أو الزرقاء. استخدم التقرير أدوات مختلفة للتعبير عن العلاقات التشابكية للمخاطر التى نتعرض لها حديثا، كما استخدم ألوانا مختلفة لتصنيف كل فئة من فئات المخاطر كما رصدها معدو التقرير.
وكان على رأس المخاطر التى يتعرض لها العالم فى عام 2018 من حيث احتمالية الوقوع، أحداث الطقس المتطرفة extreme weather events والتى احتلت المرتبة الأولى أيضا لعام 2017. ويأتى فى المرتبة الثانية لهذا العام الكوارث الطبيعية، ثم فى المرتبة الثالثة الهجمات السيبرانية (عبر الإنترنت)، وفى المرتبة الرابعة سرقة البيانات، وفى المرتبة الخامسة فشل طرق وبدائل السيطرة على تغير المناخ. أما تصنيف المخاطر لهذا العام وفقا للأثر المتوقع حال حدوثها (مهما ضعف الاحتمال) فبالتأكيد يأتى فى مقدمتها استخدام أسلحة الدمار الشامل والذى احتل المركز الأول أيضا فى تقرير العام السابق. وفى المرتبة الثانية تأتى أحداث الطقس المتطرفة، وفى المرتبة الثالثة الكوارث الطبيعية، ويأتى رابعا فشل طرق وبدائل السيطرة على تغير المناخ، واحتلت أزمات المياه المرتبة الخامسة من حيث قوة الأثر لدى تحقق المخاطر. تحول تصنيف أزمات المياه من كونها أزمات بيئية إلى أزمات مجتمعية بداية من تقرير عام 2015 والذى حلت فيه أزمات المياه فى المركز الأول من حيث الأثر المتوقع لدى تحول الخطر إلى واقع.
***
المخاطر البيئية تحتل فى تقرير عام 2018 ثلاثة مراكز من الخمسة مراكز الأولى فى كل من تصنيف المخاطر وفقا لاحتمال التحقق ووفقا لأثره المتوقع لدى تحول الخطر إلى أزمة. بينما احتلت المخاطر التكنولوجية مركزين متقدمين فى التصنيف من حيث احتمالية الحدوث، وكل من المخاطر الجيوسياسية والمجتمعية مركزا واحدا. إذن فالعالم يواجه اليوم درجة أكبر من عدم اليقين والمخاوف المتعلقة بالبيئة، والتى كان الإنسان محركها الرئيس، بإفساده لكل عناصر البيئة الطبيعية، وتسببت أنشطته فى ظاهرة الاحتباس الحرارى وارتفاع درجة حرارة الأرض بمعدلات فاقت قدرته على السيطرة. بوادر فشل مستهدفات مؤتمر المناخ COP21 والمتعلقة بتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ، بغية الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من درجتين مئويتين بنهاية القرن (مقارنة بنحو ١٫٥ درجة مئوية فى عصر ما قبل الثورة الصناعية)، كانت سببا فى ظهور تصنيف جديد للمخاطر البيئية، يتمثل فى فشل مساعى السيطرة على التغير المناخى، لأن هذا ينذر بعواقب وخيمة تخرج عن كل التقديرات. فالأصل فى عملية إدارة المخاطر هو السيطرة أو البحث عن ضوابط للسيطرة control/set controls وفى حالة عجز الإنسان عن وضع ضوابط مانعة، فعليه البحث عن ضوابط استكشافية، والبحث عن وسائل للحد من الضرر الناتج عن تحقق المخاطر الخارجة عن السيطرة، وهو ما لم توفق إليه البشرية بعد فيما يتعلق بتغير المناخ وأزمة المياه، والتى هى فرع من مخاطر تغير المناخ، وفرع آخر من تلوث البيئة، والأزمات الاقتصادية والجيوسياسية وأزمات الطاقة التى تحول دون الانتفاع بمصادر المياه.
مجالات التمويل الأخضر والأزرق (المرتبط بحل أزمة الفقر المائى) قدرت احتياجاتها بنحو ٩٠ تريليون دولار لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ والموقعة فى الاجتماع الحادى والعشرين لقمة الأطراف أو قمة المناخ المذكورة آنفا، وقد ذكرنا فى مقال سابق صعوبة تحقيق أهداف تلك القمة والقمتين التاليتين لها فى مراكش وبون، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة اعتزامها الانسحاب أخيرا من اتفاقية باريس، علما بأن تلك الدولة العظمى تمثل أنشطتها منفردة أكثر من ٢٠٪ من مصادر ارتفاع الحرارة على الأرض!
***
خلال السنوات الأربع الأخيرة لم تظهر المخاطر الاقتصادية فى أى من المراكز الخمسة الأولى لتصنيفى الاحتمالية والأثر، وذلك باستثناء المخاطر المترتبة عن صدمات حادة فى أسعار مصادر الطاقة التى جاء تصنيفها خامسا من حيث قوة الأثر لعام 2016، ومخاطر ارتفاع معدلات البطالة الهيكلية التى حلت خامسا من حيث قوة الاحتمال عام 2015. أما خلال الاعوام من 2008 وحتى عام 2014 فقد كانت المخاطر الاقتصادية مسيطرة بشكل كبير على مصفوفة المخاطر العالمية، فعلى سبيل المثال احتلت أنواع مختلفة من المخاطر الاقتصادية أربعة مراكز فى قمة تصنيف المخاطر من حيث الأثر لعام 2010، وثلاثة مراكز من حيث الاحتمالية. ربما يعكس ذلك النسق سلوك الدورات الاقتصادية إلى حد ما. فالدورة الاقتصادية العنيفة التى بدأت فى عام 2008 وانتظر البعض أن يكون لها أثر الكساد الكبير فى العقدين الثالث والرابع من القرن الماضى استمر أثرها سبع سنوات، ثم تم احتواؤها جزئيا بسياسات التسهيل الكمى والكيفى التى اتبعتها البنوك المركزية حول العالم، والتى نتج عنها بدورها أزمات أخرى ومخاطر أخلاقية moral hazards مازال العالم يترقب تفجرها مع كل فقاعة صغيرة تنفجر فى الأسواق (كما حدث فى هبوط البورصات الأمريكية والأوروبية منذ أسابيع) لكن بصفة عامة فقد أعقب السبع العجاف مرحلة من الاستقرار الاقتصادى النسبى، بدأت من العام 2015 وعبر عنها تطور المنظور العالمى للمخاطر المحدقة بالكوكب وأولوياتها من حيث الأثر والاحتمال.
المخاطر الاقتصادية التقليدية التى يواجهها العالم فى عام 2018 تضم: عدم استدامة أسعار الأصول خلال موجة صعود الأسواق المالية التى بدأت منذ ثمانية أعوام. وتضم أيضا ارتفاع حجم الديون وخاصة فى الصين. ومن المخاطر الاقتصادية المحدثة: التبعات الناتجة عن الإفراط فى وسائل الميكنة والرقمنة digitalization للاقتصاد، وصعود تيارات حمائية فى التجارة العالمية مواكبة لتيارات سياسية مفرطة فى القومية والشعبوية.
***
صعود المخاطر التكنولوجية لا يمكن فصله عن الأثر المالى الكبير للهجمات الإلكترونية التى تعرض لها العالم خلال الفترة القصيرة الماضية. واحدة من أكبر التكاليف المؤسسية لعام 2017 تمثلت فى خرق للأمن السيبرانى cyberــsecurity breaches عبر العديد من الوسائل، كان أبرزها ما يطلق عليه هجمات برامج الفدية ransomware attacks والتى مثلت 64% من رسائل البريد الإلكترونية العدائية خلال العام. من أمثلة الهجمات الخطيرة ما يعرف بهجوم WannaCry والذى أصاب 300 ألف حاسوب فى 150 دولة، وكذلك هجوم NotPetya الذى تسبب فى خسائر ربع سنوية لعدد من الشركات مقدارها 300 مليون دولار. تصاعد هذا النوع من المخاطر وتحوله إلى اتجاه عام يستهدف بهجماته صناعات بعينها وبنى أساسية حيوية يهدد بانهيار الأنظمة الحاكمة للمجتمعات وفقا لتقديرات أصحاب التقرير.
العالم يواجه مخاطر جيوسياسية كبيرة نتيجة عدم اليقين تجاه التغيرات الحادة فى مراكز القوى العالمية والإقليمية، ونمو ظاهرة التمركز حول الذات القومية، بما يترتب عليه من ضياع للدول الصغيرة فى الرمال المتحركة للسياسة الدولية، التى مازالت فى مرحلة بدائية من رسم خارطة تعددية قطبية جديدة. النزاعات الإقليمية المتفجرة فى مناطق عدة تمثل هى الأخرى ملمحا من ملامح المخاطر الجيوسياسية التى يتعرض لها العالم، فضلا عن التغيرات الحادة فى طبيعة العلاقات الدولية وتجاوزها مرحلة التحالفات العسكرية التقليدية، لتلعب الاستثمارات المشتركة، والتعاون الالكترونى والتقنى، دورا مؤثرا فى تشكيل وبأس التحالفات الدولية الناشئة. وفى هذا السياق يرجح التقرير أن يكون للفاعلين من الدول وغير الدول دور فى الحد من تصاعد تلك المخاطر فى المستقبل القريب.
التقرير يأتى فى نحو ثمانين صفحة، وهو متاح على شبكة الإنترنت، وأدعو القارئ الكريم لمطالعته لما يحتويه من عبارات يسهل استيعابها على غير المختصين، فضلا عن أدوات ولغة تحليلية يعنى بها الباحث المختص وينهل منها كيفما شاء.