بين هرج السياسة ومرج الاقتصاد - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 6 مارس 2025 7:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

بين هرج السياسة ومرج الاقتصاد

نشر فى : الأربعاء 5 مارس 2025 - 5:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 مارس 2025 - 5:35 م

أطلق المتابعون على مقعد «ضيف» الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى المكتب البيضاوى اسم المقعد الساخن، والمقعد يزداد سخونة كلما وجد المضيف فرصة لذلك. فليس صحيحًا أن نهج الرئيس ترامب صفقاتى فى كل الأحوال؛ إذ أتفق مع رأى المحلل السياسى الأمريكى إيان بريمر فى أن الرئيس ترامب يزن كل من يتعامل معه؛ فإن كان قويًا وبلاده ثقيلة الوزن اقتصاديًا وسياسيًا، يدير معه طريقة الصفقات فى التعامل. أما إذا كان بلد الضيف أضعف حالاً أو دفعته إليه الحاجة، أو كان له فيه غرض سعى لاستغلالها واقتناص ما يمكنه منها.
ويستخدم الرئيس ترامب، المستند إلى قوة الاقتصاد الأكبر عالميًا، والجيش الأقوى، والتكنولوجيا الأحدث، طاقته التى تزداد اشتعالاً أمام الكاميرات الناقلة عبر الأثير، ومهاراته التى حذقها فى سابق عهده مع تلفزيون الواقع، فى التعامل مع ضيفه. ففى عالم ترامب قد تجده مجاملاً ودودًا لضيف المقعد الساخن كما فعل مع رئيس وزراء الهند ناريندرا مودى، ومن بعده رئيس وزراء بريطانيا السير كير ستارمر، ثم تراه على النقيض من ذلك تمامًا فى المواجهة الهزلية مع فولوديمير زيلينسكى رئيس أوكرانيا.
والأمر فى نهايته كما فى بدايته هو تمامًا كما وصفه الرئيس ترامب نفسه أثناء اللقاء الدرامى مع الرئيس الأوكرانى: «لقد شاهدنا ما يكفى.. سيكون هذا عرضًا تلفزيونيًا كبيرًا». وهذا تعليق لخبير يدرك ما يفعله؛ فقد كان اللقاء خارقًا لكل الأعراف الدبلوماسية وغريبًا عن الاجتماعات السياسية، فكانت تراجيدى الانفعالات المتبادلة بين الرئيس الأمريكى ونائبه من ناحية، بين تهكم وتهديد وتوبيخ وحديث عن الأفضال الأمريكية التى يجب أن تُذكر بما يستوجبها من شكر، مع محاولات للمقاومة والصد والرد المتكرر من الرئيس الأوكرانى، بلغة غير لغته الأم وفى ملعب غير ملعبه. وفى الخلفية تلتقط الكاميرات تعبيرات لوجه السفيرة الأوكرانية بواشنطن مذعورة تكاد تجهش بالبكاء من هول ما تراه.
كما لم يخلُ الأمر من كوميديا عن زى الرئيس الأوكرانى بوابل من الأسئلة له من مراسل متأنق حلة زرقاء: «لماذا لا ترتدى حلة؟ هل ليس لديك حلة؟.. كثير من الأمريكيين لديهم مشكلة بأنك لا تحترم المكتب البيضاوى بظهورك بهذا الزى». فأجابه زيلينسكى بأنه قد يرتدى حلة مشابهة لما يرتديه المراسل، وربما أفضل أو أرخص، بعد نهاية هذه الحرب.
وفى سائر شئون الداخل والخارج يستعجل الرئيس ترامب النتائج. ففى مخيلة الرجل أنه فى مهمة لجعل أمريكا عظيمة مجددًا وفقًا لشعاره، وأن الأقدار قد استنقذته من المكائد والاتهامات والفضائح ومحاولات الاغتيال لينفذ هذه المهمة. ومع اقتراب عمره من الثمانين، يستشعر ترامب، أكثر من فترته السابقة، بدنو الآجال ومعها اقتراب النهايات لما فى خياله. فبعد أقل من عامين قد يفقد الأغلبية المساندة له فى الكونجرس، وكل يوم يمضى لن يأتى ما يعوضه حتى تنتهى ولايته الحالية والأخيرة وفقاً للدستور الأمريكى.
ومع استعجال وتيرة العمل يرى فريق من تلك الفرق المتحلقة حول الرئيس أن مؤسسات الدولة معوقة للعمل، على الأخص الفريق القادم من الإقطاعيات التكنولوجية الذى يقوده إيلون ماسك لتحديث وتطهير القطاع الرسمى. وهو بالمناسبة لا يشغل أى منصب رسمى؛ فقد أمست مثل هذه الأمور مجرد تفاصيل هامشية، وفقا للأبواق المدربة الناطقة عن حال الإدارة، لا يجب أن تعيق «ثورة التغيير».
ويراهن البعض مثل الاقتصادى المخضرم فى جامعة هارفارد دانى رودريك على اقتراب مواجهة حاسمة بين فريق الإقطاع التكنولوجى، وفريق آخر يستعين به الرئيس الأمريكى من الشعبويين رافعى لواء «أمريكا أولاً»، الذين رغم اتفاقهم على مواجهة مؤسسات الدولة التقليدية سواء العميقة منها أو الضحلة، فإن الشعبويين يريدون العودة للمجد الصناعى، فى مواجهة حلم معسكر التكنولوجيين بمستقبل تديره تطبيقات الذكاء الاصطناعى. والشعبويون يعولون على دفع الجماهير الأمريكية العريضة للتغيير وهم من قد يهمشهم الذكاء الاصطناعى. كما أن نظرة الإقطاعيين التكنولوجيين للهجرة أكثر انتقائية من الشعبويين، الذين يريدون التخلص من الأغراب بغض النظر عن حاجة الأسواق إليهم.
وقد يتداعى للذهن أن رؤساء سابقين كان منهم الجمهورى أبراهام لنكولن، الذى حكم الولايات المتحدة من 1861 حتى 1865، وعُرف بقدرته الاستثنائية على إدارة فريق من الخصوم والغرماء السياسيين، مستغلاً قدراتهم وطاقاتهم فى تحقيق المصالح العليا للبلاد. ولكن الفرق فى الواقع كبير بين سمات الرئيسين والمصالح المنشودة وحال الولايات المتحدة نفسها. فما جعل من لنكولن الرئيس الأعظم فى تاريخ الولايات المتحدة، هو كفاح سياسى حافظ به على اتحاد الولايات الأمريكية وفتح الطريق لإنهاء العبودية البغيضة. ربما لمثل هذا العهد، وما تلاه من صعود أمريكى، هو ما يحن إليه من يفتقدون مجدها ولكن هيهات. فأنى يستعاد المجد القديم فى عالم يبدأ صباحه بفقرة للسيرك السياسى، فما إن يفرغ الإعلام من متابعتها حتى تلاحقه فى المساء فقرات للملاهى الاقتصادية بقطاراتها الأفعوانية، تسيرها قرارات متهافتة بلا حيثية إلا دغدغة للمشاعر الشعبوية بتوجه عن إجلاء جماعى للمهاجرين غير الشرعيين، وتوجه آخر عن فرض عشوائى لتعريفة جمركية، وأثر التوجهين على الاقتصاد تضخمى حتمًا. فضلاً عن قطع المعونات الدولية بتضحيات بعوائدها الاقتصادية والسياسية على الولايات المتحدة. وبين هرج السياسة ومرج الاقتصاد يرتبك العالم فى بحثه عما يملأ الفراغ السياسى ويوقى من الأزمات الاقتصادية، وهو ما يستكمله المقال القادم.


نقلا عن جريدة الشرق الأوسط

التعليقات