الخوف الأمريكي من صعود الصين - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 5 سبتمبر 2025 9:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

الخوف الأمريكي من صعود الصين

نشر فى : الجمعة 5 سبتمبر 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 5 سبتمبر 2025 - 7:15 م

عدت إلى العاصمة الأمريكية واشنطن قبل أيام قليلة، لأجد النقاش حول الصين محتدمًا فى الدوائر المهتمة بالسياسة الخارجية، ولأجد التوافق الحاضر منذ عدة سنوات بين نخب الحزبين الجمهورى والديمقراطى، والنخب الفكرية والبحثية والإعلامية، وجماعات المصالح والضغط، والشرائح البيروقراطية العليا فى المؤسسات الرسمية، على كون الصين عنوان التحدى الأخطر للهيمنة الأمريكية، يتعاظم ويعبر عن نفسه بوضوح فى تصريحات الساسة ومقالات كتّاب الرأى المؤثرين وحوارات مراكز الأبحاث.

غير أن النخب الأمريكية لم تستقر بعد على سياسات وتكتيكات مواجهة الصين، بعيدًا عن التصريحات المفاجئة للرئيس دونالد ترامب وتهديداته المتكررة بفرض رسوم جمركية قاسية.

فالنخب هذه تتوقع أن يتواصل الصعود الاقتصادى والتجارى للصين خلال السنوات والعقود القادمة، وأن يتواكب مع اكتساب المزيد من القوة الجيوسياسية (خاصة فى منطقة المحيطين الهندى والهادى)، واتساع ساحات الدور الدبلوماسى للعملاق الآسيوى (خاصة فى جواره المباشر، وفى منطقة الشرق الأوسط، وفى القارة الإفريقية). تأسيسًا على ذلك، تتوقع واشنطن أن تصير بكين فى المستقبل القريب القوة العظمى الوحيدة القادرة بالفعل على منازعة الهيمنة الأمريكية.

غير أن النخب الأمريكية لا تتوقع أن تمتد المنازعة الصينية إلى المجالين العسكرى والتكنولوجى، وفيهما يتواصل التفوق الأمريكى الذى يحول دون أن يكون للأسلحة والمنتجات التكنولوجية الصينية، عند مقارنتها بالنظائر الأمريكية، مزايا نسبية غير السعر المنخفض. ولذلك، ترى واشنطن، من جهة، أن تحدى بكين لن يخلّ بكل موازين عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة، الذى انفردت الولايات المتحدة بقيادته لعقود، ويستحيل تغيير حقائقه مرة واحدة.

 • • •

ومن جهة أخرى، تدرك نخب واشنطن أهمية الاعتماد على استمرار التفوق العسكرى والتكنولوجى لاحتواء تحدى بكين، سواء على مستوى المنافسة الثنائية بين القوتين العظميين أو فيما يخص اجتذابهما للحلفاء والأصدقاء على امتداد خريطة العالم.

والحقيقة أن كثيرًا من الحوارات الراهنة للنخب السياسية والفكرية والبحثية والإعلامية الأمريكية حول الصين لا يخلو إما من الزهو، على سبيل المثال، بتفوق الطائرات الحربية الأمريكية على المقاتلات التى يستخدمها الجيش الصينى (وتستورد بكين محركاتها من موسكو، وكانت تستورد بعضها من كييف قبل نشوب الحرب الروسية – الأوكرانية)، أو من الإشادة بالريادة التكنولوجية لشركات مثل جوجل ومايكروسوفت وآبل وتقدمها الكاسح على منافسيها الصينيين.

تحاول الولايات المتحدة جاهدة أن تضيف إلى تفوقها العسكرى والتكنولوجى تفوقًا أيديولوجيًا، يروج لأفضلية النموذج الرأسمالى الحر فى صياغته الأمريكية على حساب نموذج سيطرة الدولة على السوق الرأسمالية الذى تطبقه الصين. وتكثر الولايات المتحدة، ممثلة فى نخب واشنطن، من الترويج لتفوقها الأيديولوجى، والحديث عن أن جذور التنافس الراهن والصراع القادم مع بكين تضرب فى أعماق التناقض بين الحرية الاقتصادية التى تحميها واشنطن، وتضمن من ثم الابتكار والتنافسية، وبين نقيض هذه الخصائص الذى يُلصق بالصين.

غير أن نخب واشنطن تتورط هنا فى استنساخ مزدوج فاشل: فمن جهة، لماضى المقولات الأيديولوجية التى شهدتها الحرب الباردة بين النموذجين الأمريكى والسوفييتى، ومن جهة أخرى، تتجاهل حقيقة أن الحريات الاقتصادية وخصائص الابتكار والتنافسية ستجعل من الصين، عما قريب، الاقتصاد الأكبر فى العالم. وتتغافل نخب واشنطن أن مقولات الحرب الباردة لم تعد ذات مغزى كبير لأغلبية من يعيشون اليوم على سطح الكرة الأرضية، وأن الدفع بكون النموذج الصينى غير جذاب عالميًا محض ادعاء أجوف.

• • •

تتوقع نخب واشنطن أن تفرض المنازعة الصينية لهيمنة الولايات المتحدة فى المستقبل القريب على القوى الكبرى (وهى الدول والكيانات المؤثرة عالميًا) والقوى الوسيطة (وهى الدول والكيانات المؤثرة فى أقاليم بعينها) الاختيار بين التوجه نحو واشنطن أو الذهاب إلى بكين من أجل تطوير علاقات تحالف تشمل العناصر الاقتصادية والتجارية والعسكرية والتكنولوجية، ومعها التعاون الدبلوماسى وضمانات الأمن الثنائية (التى تقدمها أى من القوتين العظميين إلى دولة بعينها)، أو الضمانات الأمنية متعددة الأطراف (التى تأتى من واشنطن أو بكين إلى مجموعات من الدول أو إلى تجمعات إقليمية تضم أكثر من دولة). وبينما تبدو أوروبا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية فى خانة التحالف الشامل مع الولايات المتحدة، وتلتزم روسيا بالشراكة الاستراتيجية الكاملة مع الصين، تدرك نخب واشنطن أن القوى الكبرى الأخرى، كالهند والبرازيل، والقوى الوسيطة التى صارت تنتظم فى تجمعات إقليمية عديدة مثل آسيان وبريكس وشنجهاى وتحالف كواد ومجلس التعاون الخليجى، تفتش عن سبل للمزج بين واشنطن وبكين، أو بين المعروض أمريكيًا والمقترح صينيًا، فى استراتيجيات وسياسات التعاون والتنسيق التى تطبقها.

غير أن الولايات المتحدة، ولأنها تتأرجح اليوم بين تفضيل سياسات وتكتيكات صراعية تجاه الصين، وبين اعتماد خليط من سياسات التعاون مع الإبقاء على التفوق الأمريكى عسكريًا وتكنولوجيًا، وتكتيكات احتواء الصين اقتصاديًا وتجاريًا ودبلوماسيًا وأمنيًا مع الابتعاد عن التصعيد الشامل، لم تحسم أمرها بعد فيما يخص كيفية وحدود تخييرها للقوى الكبرى والوسيطة ومدى استعدادها للنتائج المتوقعة. لذلك، تتواتر التصريحات العدائية من المسئولين والساسة الأمريكيين تجاه الصين، وتتكرر الإشارات إلى حتمية ضمان استمرار الهيمنة العالمية للولايات المتحدة بكافة السبل الممكنة.

وفى تأرجحها، تتجاهل واشنطن أن بلدان العالم الواقعة بينها وبين بكين لا تقبع فقط فى محل المفعول به، وإنما تمتلك من مصادر القوة والأدوات التفاوضية ما قد يمكّنها من تجنب مصيدة الاختيار بين القوتين العظميين، ومن عدم الوقوع فى معادلات صفرية. 

عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
التعليقات