كم من الضحايا ننتظر قبل أن تصحو ضمائرنا وننتبه إلى المصير الذى ندفع إليه وطنا نتلهى جميعا بمقدراته، كم من الدماء ينبغى أن تسيل قبل أن نشعر بالندم على ما اقترفناه من آثام فى حق بلدنا وناسه.
نحن الذين هللنا للألتراس وشجعنا تعصبهم المقيت، واحتفينا بـ«دخلاتهم» وأغنياتهم وصواريخهم وشماريخهم، متناسين أن هذه الظاهرة التى نشأت فى إيطاليا ورعاها ملاك الأندية ومحترفو المراهنات، تقوم على العصبية البغيضة إلى حد قتال الشوارع ضد مشجعى الأندية المنافسة، فإذا بمباريات الكرة تتحول من فرصة للمتعة، إلى مناسبة للتخريب والهم والغم.
هل نسينا اقتحام جمهور الاتحاد السكندرى الملعب أثناء تدريبات الفريق واعتداءه بالسنج والمطاوى على اللاعبين، هل نسينا ماجرى فى مباراة الأهلى والمحلة والذى كان شبيها بما جرى فى استاد بورسعيد لولا أن الأمن كان أحكم والجمهور كان أهدأ، هل نسينا حرائق المدرجات ومواجهات ألتراس الأهلى والزمالك فى الشوارع، هل نسينا قنابل المولوتوف والصواريخ والحجارة التى تبادلها جمهور «أبناء العم» المقاولون والإسماعيلى، برغم انعدام المنافسة بين الفريقين، بل إن استاد بورسعيد نفسه كان مسرحا لعرض شبيه بما جرى مساء الأربعاء الماضى فى مباراتى الاتحاد وسموحة، كما ذكر رئيسا الناديين.
الآن يتم اختصار المسألة فى قلة مندسة وطرف ثالث وتراخٍ أمنى، وهذا كله قد يكون صحيحا، لكنه لن يكون فاعلا ما لم تكن التربة مشبعة بالبنزين وتنتظر فقط عود ثقاب.
لن تستقيم الأمور ونحن نلعن سلسفيل الشرطة ثم نطلب حمايتها ثم نشتمها لأنها تستخدم القوة ضد الخارجين على القانون، لن تستقيم الأمور ونحن نهين جيشنا ليل نهار ونخوّن قادته، ويصرخ دعاة» ثورة إلى الأبد» مطالبين بعودة «العسكر الأوباش» إلى ثكناتهم فورا.
حين يهلل البعض لحشود تغلق الميادين وتقطع السكة الحديد، وحين لا يجدون جرما فى منع رئيس الحكومة من دخول مكتبه، ولا جريمة فى اقتحام وزارة الداخلية ومبنى التليفزيون والبرلمان، وحين يردد هؤلاء أن الشرعية للميادين ولا شرعية للبرلمان، وحين يصبح دخول نواب الشعب المنتخبين بإرادته الحرة للبرلمان مغامرة، ويحتاجون فى كل مرة إلى دروع بشرية من مناصريهم ليمارسوا دورهم الرقابى والتشريعى، فإن الرسالة التى تصل للناس فورا هى أن البلد فى فوضى و«طظ فى استفتاءاتكم وانتخاباتكم وبرلمانكم».
الوسطية المصرية تتهاوى تحت معاول ذوى الهوى والغرض، والدولة تتآكل بفعل إعلام منحط وفضائيات عميلة ونخبة انتهازية تمارس أقصى درجات النفاق والتدليس والغش، وبدلا من إحياء ذات الفرد فى مواجهة ثقافة القطيع، إذا بنا ننتكس ونعود قطعانا وقبائل أشد بؤسا.
كل المقدمات كانت تقود إلى كارثة استاد بورسعيد، فلماذا يبدو وكأننا استيقظنا فجأة على هول المفاجأة؟