مع قيام الثورات العربية ظهرت أصوات نعتها نقادها بـ «الثقافوية». فهى تغض النظر عن السياسة والسلطة لتركز على نقد الدين والقيم. بهذا، تحول الأنظار عن الاستبداد، إن لم تتحول عونا له. المهمة المباشرة والحارقة فى طلب الحرية تستبعد لمصلحة المهمة التى هى عملية تاريخية مديدة وتثقيفية كبرى.
عيب الثقافوية هذه ليس بالضرورة فى النقد الذى توجهه للثقافة، وكثير منه وجيه وفى محله، بل فى النقد الذى لا توجهه للسياسة. والنقد الأخير ليس بديلا عن النقد الثقافى، إلا أنه شرط لجدواه. ففقط بعد نيل الحرية، وفى بيئة الصراع لإحرازها، يتاح للمواطنين أن يتصدوا لأسئلة عالمهم ولأفكاره، بموجب تجاربهم ومصالحهم. وفى مناخ الحرية السياسية والتعبيرية وحدها، يأتى النقد الثقافى موصولا بالاختبار العملى، لا بالطرف السلطوى الذى يستخدم هذا النقد على هواه، ثم يحبطه، حين يناسبه ذلك، على هواه أيضا.
ما يزيد الإلحاح على نقد الثقافوية أن أجهزة الدولة فى البلدان التى شهدت الثورات ليست حيادية وعديمة التدخل فى الثقافة والاجتماع. إنها فى كل لحظة تتدخل فى الشئون الروحية والقيمية بحيث يغدو وهما افتراض التغيير و«التنوير» و«تجديد الخطاب الدينى» فى ظلها.
اليوم تواجهنا، فى بلداننا وفى العالم، ثقافوية مقلوبة: فبدل «ديننا وحضارتنا هما الأسوأ» ترتفع شعارات ضمنية تفيد بأن «ديننا وحضارتنا هما الأحسن». وبدل التمسك بالواقع السياسى القائم، يحل تمسك بالواقع الثقافى القائم.
وراء رد الفعل هذا عنصران: واحد هو القمع الذى تعرضت له الشعوب التى ثارت، فجاء الرد يستنطق سائر أنواع التخلف المقيمة أصلا وبقوة فى تراكمنا الثقافى: القومى والدينى والطائفى والقبلى... والثانى هو الترامبية ورهاب الإسلام الذى يستحضر ردا متوترا عليه. لكنْ إذا كانت الثقافوية الأولى نخبوية متعالية، فهنا نقع على شعبوية يراد رفعها إلى مصاف نخبوى.
اليقظة الثقافوية هذه، لا سيما فى الغرب، تحمل بعض العلامات الصحية، كالتعاون اليهودى ــ المسلم فى الولايات المتحدة (يهود يستضيفون للصلاة فى معبدهم مسلمين دمر مركز عبادتهم، ومسلمون يجمعون تبرعات لإعادة بناء مقبرة يهودية دنست)... أو الاستنفار الثقافى الواسع ضد ترامب والحمولة التعددية الخصبة لذاك الاستنفار (وإن لم يكن يغنى عن انضمام قطاعات أخرى، خصوصا العمال البيض ممن سيبقى التغيير صعبا من دونهم).
لكن الرد الثقافوى على أنظمتنا أو على ترامب يبقى هو أيضا، وفى حالتيه، أسير استبعاد السياسة. فوق هذا، كثيرا ما يبدو هذا الرد، فى بلداننا كما فى الغرب، أسير هزيمة السياسة، والهزيمة تجسدها مصائر الثورات هنا وصعود ترامب هناك. وهذا فضلا عن أن ردا كهذا مولد لمزيد من الطائفية والفرقية اللتين ترفدانه بالقوة فى البداية ثم تبددان قوته وقدرته على التغيير.
إنه نوع من تسمين الطريدة. فإذا كانت الثقافوية الأولى تتاخم التعالى العنصرى فى نظرتها إلى الشعب، فالثقافوية الثانية تتاخم التعالى نفسه فى تعميم نظرة ما إلى الآخر ضمن هذا الشعب ذاته. إنها تجزئ وتفتت وتكلل مساعى التغيير بالحروب الأهلية.
فرهاب الإسلام لا يرد عليه، كما يحصل اليوم فى بعض الجامعات والكتابات، بالتمجيد والذوبان فى ما يتعرض للاضطهاد. وما نطالب بحقه وبحق تعبيره وتمثيله ليس بالضرورة موضوعا للأمْثلة.
الثقافوية هذه قد نعيش معها طويلا، معارضين ومساجلين، فيما لا تزال الثقافوية الأولى تمارس الفتك والعدوان. أما إذا كنا محكومين بشىء فعلا، فهو إطلاق النار فى اتجاهات عدة.